map
RSS instagram youtube twitter facebook Google Paly App stores

عدد الضحايا

حتى اليوم

4294

إضاءة على رواية "بينما نحترق" للكاتب الفلسطيني عامر صرصور

تاريخ النشر : 25-03-2025
إضاءة على رواية "بينما نحترق" للكاتب الفلسطيني عامر صرصور

نضال خليل مجموعة العمل

في زوايا الذاكرة المتشابكة بين مخيم اليرموك وثلوج السويد ينبثق صوت عامر صرصور كقصيدة تبحث عن وطن

 وُلد عامر عام 1990 في مخيم اليرموك بسوريا ذلك المخيم الذي كان ملاذاً للفلسطينيين العاملين في المأوى بعد نكبة 1948 ليجد نفسه في شمال أوروبا، حيث أصبحت السويد موطنه الجديد.

بدأ عامر ينسج كلماته مستخدمًا اللغة السويدية كلغة شرعية عن مكناته منذ عام 2010 أضاءت قصائده أمسيات الشعر في السويد حيث أصر على أن تكون فلسطين حاضرة في كلماته مُعبِّرًا عن قضيته وقضايا الحياة المتنوعة.

لم يكن من الممكن أن ينشر الشعر مجرد كلمات تُلقي، بل كانت رسالة وهي في عام 2017 مثلت السويد في مهرجان المرشح الشعري في قبرص ليُظهر كيف يمكن للمنفى أن يكون جسرًا بين الجميع وكيف يمكن للهوية الفلسطينية أن تتجلى بلغات متعددة.

عامر لم يكتفِ بالكتابة فقط، بل يسعى إلى البحث عنه بالأدب بين الأجيال الشغفة عقد ورش عمل في الكتابة الإبداعية وتفاعل مع 400 طفل وشاب مُحفِّزًا إياهم على التعبير عن أنفسهم وافتخارهم هذا الالتزام بالأدب والمجتمع منحه جائزة (جائزة جميلة أوبسالا الأدب الثقافي) لعام 2023 تخليدا لذكرى غوستا كنوتسون تقديرًا لفنه الواسع والتزامه

من خلال قصائده وورش العمل الذي قدمها أصبح عامر صرصور جسرًا يربط بين ثقافات متعددة مُعبِّرًا عن آمال وآلام جيل عن هويته وسط تقلبات الزمن، وهنا اضيء على عمله الروائي .

رواية بينما نحترق "Medan vi brinner"

تُعدُّ رواية "Medan vi brinner" للكاتب عامر صرصور عملًا أدبيًا ينبض بالحياة والوجع في آنٍ واحد حيث يمزج بين تجارب شخصية عميقة وذاكرة جماعية مؤلمة لمآسي اللجوء والنزوح والصراع من أجل الهوية.

تبدأ الرواية بقصة شاب يُدعى عمر يبلغ من العمر 23 عامًا يعيش في حالة من الإحباط والبحث الدائم عن مكانه في عالم يملؤه التحديات والصعاب يجد عمر نفسه عالقًا بين واقع الحياة في السويد وظلال الماضي الفلسطيني في رحلة يتخبط فيها بين أمل الانتماء وخوف الاندثار دفعه شعوره العميق بالاغتراب إلى الإقدام على مغامرة خطيرة إذ قرر السفر إلى صقلية لاستقدام أبناء عمه الأكبر سنًا وهم فلسطينيون بلا جنسية فرّوا من ويلات الحرب الأهلية في سوريا.

تصور الرواية رحلة ملحمية تمتد من ضفاف البحر الأبيض المتوسط حيث عبر هؤلاء اللاجئون على متن قارب مهترئ مرورًا بتجارب محفوفة بالمخاطر خلال رحلتهم بالقطارات الأوروبية إذ كانوا يعتمدون على هوية مزيفة وآمال عائلية كبيرة في أن تمرّ هذه الأوراق المزورة دون أن تلتقطها أعين الشرطة هنا يبرز رمز الرحلة كلوحة مسرحية تتراقص فيها الأحداث على أنغام المخاطر والشكوك إذ يُشبَّه الاختباء والتخفي برقص بديع يبحث عن الانسجام وسط فوضى المراقبة والتفتيش.

تقع أحداث الرواية في عام 2013 وهو زمن كانت فيه مستقبلات اللاجئين السوريين معلقة في حالة من عدم اليقين مما أضفى على السرد توترًا ورهبة تتخلل كل مشهد وفي هذه الأجواء لا تقتصر القصة على مجرد رحلة مادية، بل تمتد لتلامس أعماق الهوية والذاكرة إذ يستحضر الكاتب من خلال سرد قصته تفاصيل مؤلمة من نشأته في مخيم اليرموك للاجئين في دمشق حيث فرَّ أجداده عام 1948 من وطنهم في فلسطين وكانت تلك التجربة تُشكّل جزءًا لا يتجزأ من الهوية الفلسطينية التي يحملها.

تتداخل في نسيج الرواية حكايات شخصية مع أحداث تاريخية وسياسية حيث يُذكِّر صرصور بمرارة أن والده قد سُجن في سوريا بسبب نضاله من أجل الديمقراطية والحرية الفلسطينية   وأنه جاء إلى السويد في عام 1990 كطفل رضيع تحمل حفاضاته أوراق والده التي كانت بمثابة شهادة على صمود أجيال كاملة هذه الخلفية الشخصية تُضفي على النص عمقًا إنسانيًا وتربط بين الماضي والحاضر لتصبح الرواية مرآةً تعكس معاناة جيلٍ بأكمله من اللجوء والتشرد.

ولم يأتِ هذا العمل الأدبي بسهولة إذ استغرقت سنوات طويلة لتتشكل الأفكار في ذهن الكاتب قبل أن يتحول النص من مجرد قصيدة طويلة أو حتى نص درامي إلى رواية متكاملة تدمج      بين الفكاهة والصدق العاطفي فقد كان عامر صرصور في بداياته يعتمد على أسلوب الكلام الشفهي والموسيقى ليجد فيما بعد طريقه الخاص نحو الأدب المكتوب حيث واجه رفضًا             من بعض دور النشر حتى اضطر للاستماع إلى نصيحة صديق التحق بمدرسة للكتّاب في سعي منه لتحويل تجربته الشخصية إلى عمل فني يتميز بالدقة والجرأة.

من جهة أخرى تتناول الرواية بشكل نقدي قضية الجريمة المنظمة في السويد حيث يظهر أن حياة بعض أصدقاء عمر مرتبطة بدوائر الجريمة لكن الكاتب لا يرى في ذلك تعريفًا مطلقًا للمجرم، بل يُقدم فهمًا أعمق يشير إلى أن هذه الأعمال قد تكون نتيجة لضغوط نفسية ومحاولات للتعويض عن شعور بالعجز وفقدان السيطرة هكذا تُصبح الهوية موضوعًا مركبًا لا يُختزل في مجرد تسميات، بل هو نسيج متداخل من التجارب والضغوط الاجتماعية والتطلعات الفردية

وفي خضم هذه الرحلة العنيفة والمعقدة يرن صدى سؤال محوري في أذهان القارئ: "متى سينتهي هذا الدوار؟"

فالرواية تُعبّر عن فكرة أن الحياة تسير في دورات متكررة وأن الألم والأمل يتناوبان على الظهور في سردٍ يجمع بين مرارة الماضي وإشراقة المستقبل إنها دعوة إلى الحفاظ على روح المقاومة والاستمرار في الكفاح مهما بدت الظروف قاتمة، ولا مجال فيها للاستسلام

تظل رواية "Medan vi brinner" شهادة حية على قدرة الأدب على تجسيد التجارب الإنسانية بصدق وعمق إذ تمزج بين التفاصيل الدقيقة للتجارب الشخصية وبين السرد التاريخي والسياسي لتشكل لوحة معبرة عن معاناة جيل يبحث عن هويته وسط تقلبات الزمن وبينما يستمر البحث عن الانتماء والحرية تبقى هذه الرواية رمزًا للأمل الذي لا ينطفئ وللصمود الذي يقاوم كل محاولات النسيان والانكسار.

في زوايا الذاكرة المتأرجحة وبين طيات الألم والعزلة تنبثق رواية "Medan vi brinner" كمرثية شاعرية تسرد قصة الوجود الممزق بين الأمل والضياع إنها ليست مجرد حكاية عابرة، بل مرآة متصدعة تعكس وجوه الهاربين من قدرٍ لم يختاروه وأقدامهم التي تُطاردها خطى الماضي في طرقات المدن الباردة حيث يصير النسيان نوعًا آخر من الوجود وحيث يكون للحنين طعم الملح والرطوبة تمامًا كحافة قارب يترنح وسط البحر الأبيض المتوسط.

يظهر عمر ذلك الشاب ذو الثلاثة والعشرين عامًا كمن يسير على حافة هاوية متأرجحًا بين الحاضر الذي يرفضه والماضي الذي لا يزال يُطارده  تتجسد حياته كحالة دائمة من البحث غير المكتمل  كمَن يتنقل بين الأبواب المغلقة في انتظار أن يُفتح له باب لا يعرفه  كان يعيش بين برودة السويد وظلال الماضي الفلسطيني  محاصرًا بين جدران غرفته التي تبدو ككهف حديث  حيث تضيق المساحة كلما اتسع الفراغ داخله  منذ سنواته الأولى  كان قد أدرك أن العالم لا يمنح أحدًا فرصةً ليختار أصله أو ذاكرته  لكنه كان يأمل على الأقل أن يجد مساحةً للانتماء  وفي لحظة من الجنون المدفوع بالحاجة إلى معنى  قرر عمر أن يخوض مغامرة خطرة أن يهرب إلى صقلية ليجلب أبناء عمه الذين تقطعت بهم السبل في دروب اللجوء الأوروبي.

عبر البحر الأبيض المتوسط، حيث تُروى الحكايات بالأمواج وتُكتب القصص على صفحات الماء كان أبناء عمومته قد غادروا الشرق المحترق بحثًا عن حياة لا تتطلب منهم تفسير هوياتهم في كل محطة تفتيش كانت رحلتهم ملحمية لكنها ليست ذات المجد الذي تُحاك حوله الأساطير بل ذات البؤس الذي يُعيد إنتاجه التاريخ مرارًا على متن قارب مهترئ بين وجوه متعبة وأجساد تراكم فوقها الملح والعرق والخوف كانوا يبحرون كما لو أنهم خارج الزمن بلا أسماء، بلا وطن بلا يقين سوى أن اليابسة أي يابسة ستكون أكثر رحمة من البحر.

وحين وصلوا إلى شواطئ إيطاليا  لم تكن اليابسة سوى محطة أخرى من الجوع والاختباء    كان عليهم أن يواصلوا الرحلة عبر القطارات الأوروبية  بأوراق مزورة وهويات معلقة بين الحقيقة والوهم  كانوا يتسللون كما يتسلل الظل في زوايا الضوء  كل نظرة شرطي كانت بمثابة محاكمة  كل نداء عبر مكبر الصوت كان يحمل احتمال أن تكون هذه هي اللحظة التي ينتهي فيها كل شيء  لم تكن الرحلة مجرد انتقال جسدي  بل كانت هروبًا متواصلًا من قدرٍ يحاول أن يُمسك بهم  من واقع يُعيد خلق نفسه في كل محطة كأن الحياة نفسها قد أصبحت لعبة مراوغة مستمرة بين الإنسان والمصير.

في عام 2013 عندما كانت أبواب العالم تُغلق في وجوه اللاجئين  كانت قصص مثل قصتهم تتحول إلى مجرد أرقام في نشرات الأخبار  لكن خلف كل رقم  كان ثمة يدٌ ترتجف  وعينان تحملان تاريخًا من الخسارات وقلب يبحث عن نبض يطمئنه بأنه لا يزال حيًا عمر الذي لم يكن يومًا بطلاً ولا طالب مغامرات  وجد نفسه في قلب هذه الرحلة كمن يسير على حبل مشدود بين الهاوية والفراغ  لم يكن يبحث عن بطولة  لكنه كان يعلم أن عليه أن يكون الشخص الذي يساعد الآخرين على عبور الجسر الرفيع بين الظل والنور  بين العدم والوجود.

ومن بين ظلال هذه الرحلة  كانت ذاكرة عمر تتداعى  مخيم اليرموك  الأزقة الضيقة  روائح الخبز الذي يحمل طعم البقاء  وأحاديث الأجداد عن الوطن البعيد الذي لم يعد سوى صورة في ذاكرة المنفيين  كلما تحرك في قطارات أوروبا  كان يسمع أصداء خطوات والده  الذي كان سجينًا في سوريا  يصرخ في العتمة بحثًا عن عدالة لم تكن يومًا أكثر من سراب  كان يتذكر طفولته في السويد  حين كان طفلًا رضيعًا حمله والداه عبر القارات بحثًا عن مأوى                  وكانت حفاضاته تلتف حول أوراق والده الثبوتية  كما لو أن مصيره كان مكتوبًا عليه منذ ولادته.

لم تكن هذه الرواية لتُكتب بسهولة فالألم لا يُترجم إلى كلمات دون أن يترك ندوبًا في الكاتب نفسه عامر صرصور  الذي بدأ رحلته في الكتابة عبر الموسيقى والكلام الشفهي لم يكن يريد  أن يروي قصة مجردة  بل كان يريد أن يمنح ذاكرته ملمس الحبر أن يصنع من التفاصيل الصغيرة نسيجًا أدبيًا يلتقط نبض المشردين في دروب المنفى  لقد كافح من أجل نشر هذا العمل تمامًا كما كافح من أجل البقاء  ووجد أخيرًا طريقه بعد أن التحق بمدرسة للكتّاب  حيث تعلم كيف يحوّل الألم إلى فن  وكيف يصوغ السرد ليصبح صدىً لكل الأصوات التي لم تجد من يرويها.

وفي زوايا أخرى من الرواية كان هناك انعكاسٌ للمجتمع السويدي الذي بدا في ظاهره كأرض للحرية لكنه في أعماقه كان متاهة من العزلة والغربة لم يكن عمر وأصدقاؤه مجرد شخصيات تبحث عن الأمان بل كانوا مرايا تعكس كيف يمكن للإنسان أن يصبح غريبًا حتى عن نفسه  البعض انزلق في دوائر الجريمة  ليس بدافع الشر  ولكن كاستجابة لواقع لم يمنحهم سوى خيارات مستحيلة  لم يكن الكاتب يحاول تبرير شيء  بل كان يُنصت إلى طبقات أكثر عمقًا من الحقيقة  حيث لا يوجد إنسان يولد مجرمًا بل تصنعه الظروف  وتعيد تشكيله الحاجة للبقاء

وفي النهاية يرن سؤال الرواية كجرس داخل عقل القارئ:

"متى ينتهي هذا الدوار؟"

 سؤالٌ يبدو بلا إجابة لأن الحياة ذاتها تدور في حلقات من المعاناة والأمل من الهروب والعودة من الحنين والنسيان لكن وسط كل ذلك تبقى هناك حقيقة واحدة:

أن الكتابة هي الفعل الوحيد الذي يُمكن من خلاله مقاومة العدم وأن السرد هو الوسيلة الأخيرة للحفاظ على ما تبقى من ذاكرة العالم.

"Medan vi brinner" ليست مجرد رواية إنها شهادة حية على ذلك الحريق الداخلي الذي يلتهم أرواح المنفيين في صمت إنها صرخة في وجه العالم ورسالة مفادها أن الإنسان مهما كان مكسورًا لا يزال قادرًا على أن يحكي حكايته وأن يجعلها خالدة في وجه النسيان.

الوسوم

رابط مختصر : http://www.actionpal.org.uk/ar/post/21300

نضال خليل مجموعة العمل

في زوايا الذاكرة المتشابكة بين مخيم اليرموك وثلوج السويد ينبثق صوت عامر صرصور كقصيدة تبحث عن وطن

 وُلد عامر عام 1990 في مخيم اليرموك بسوريا ذلك المخيم الذي كان ملاذاً للفلسطينيين العاملين في المأوى بعد نكبة 1948 ليجد نفسه في شمال أوروبا، حيث أصبحت السويد موطنه الجديد.

بدأ عامر ينسج كلماته مستخدمًا اللغة السويدية كلغة شرعية عن مكناته منذ عام 2010 أضاءت قصائده أمسيات الشعر في السويد حيث أصر على أن تكون فلسطين حاضرة في كلماته مُعبِّرًا عن قضيته وقضايا الحياة المتنوعة.

لم يكن من الممكن أن ينشر الشعر مجرد كلمات تُلقي، بل كانت رسالة وهي في عام 2017 مثلت السويد في مهرجان المرشح الشعري في قبرص ليُظهر كيف يمكن للمنفى أن يكون جسرًا بين الجميع وكيف يمكن للهوية الفلسطينية أن تتجلى بلغات متعددة.

عامر لم يكتفِ بالكتابة فقط، بل يسعى إلى البحث عنه بالأدب بين الأجيال الشغفة عقد ورش عمل في الكتابة الإبداعية وتفاعل مع 400 طفل وشاب مُحفِّزًا إياهم على التعبير عن أنفسهم وافتخارهم هذا الالتزام بالأدب والمجتمع منحه جائزة (جائزة جميلة أوبسالا الأدب الثقافي) لعام 2023 تخليدا لذكرى غوستا كنوتسون تقديرًا لفنه الواسع والتزامه

من خلال قصائده وورش العمل الذي قدمها أصبح عامر صرصور جسرًا يربط بين ثقافات متعددة مُعبِّرًا عن آمال وآلام جيل عن هويته وسط تقلبات الزمن، وهنا اضيء على عمله الروائي .

رواية بينما نحترق "Medan vi brinner"

تُعدُّ رواية "Medan vi brinner" للكاتب عامر صرصور عملًا أدبيًا ينبض بالحياة والوجع في آنٍ واحد حيث يمزج بين تجارب شخصية عميقة وذاكرة جماعية مؤلمة لمآسي اللجوء والنزوح والصراع من أجل الهوية.

تبدأ الرواية بقصة شاب يُدعى عمر يبلغ من العمر 23 عامًا يعيش في حالة من الإحباط والبحث الدائم عن مكانه في عالم يملؤه التحديات والصعاب يجد عمر نفسه عالقًا بين واقع الحياة في السويد وظلال الماضي الفلسطيني في رحلة يتخبط فيها بين أمل الانتماء وخوف الاندثار دفعه شعوره العميق بالاغتراب إلى الإقدام على مغامرة خطيرة إذ قرر السفر إلى صقلية لاستقدام أبناء عمه الأكبر سنًا وهم فلسطينيون بلا جنسية فرّوا من ويلات الحرب الأهلية في سوريا.

تصور الرواية رحلة ملحمية تمتد من ضفاف البحر الأبيض المتوسط حيث عبر هؤلاء اللاجئون على متن قارب مهترئ مرورًا بتجارب محفوفة بالمخاطر خلال رحلتهم بالقطارات الأوروبية إذ كانوا يعتمدون على هوية مزيفة وآمال عائلية كبيرة في أن تمرّ هذه الأوراق المزورة دون أن تلتقطها أعين الشرطة هنا يبرز رمز الرحلة كلوحة مسرحية تتراقص فيها الأحداث على أنغام المخاطر والشكوك إذ يُشبَّه الاختباء والتخفي برقص بديع يبحث عن الانسجام وسط فوضى المراقبة والتفتيش.

تقع أحداث الرواية في عام 2013 وهو زمن كانت فيه مستقبلات اللاجئين السوريين معلقة في حالة من عدم اليقين مما أضفى على السرد توترًا ورهبة تتخلل كل مشهد وفي هذه الأجواء لا تقتصر القصة على مجرد رحلة مادية، بل تمتد لتلامس أعماق الهوية والذاكرة إذ يستحضر الكاتب من خلال سرد قصته تفاصيل مؤلمة من نشأته في مخيم اليرموك للاجئين في دمشق حيث فرَّ أجداده عام 1948 من وطنهم في فلسطين وكانت تلك التجربة تُشكّل جزءًا لا يتجزأ من الهوية الفلسطينية التي يحملها.

تتداخل في نسيج الرواية حكايات شخصية مع أحداث تاريخية وسياسية حيث يُذكِّر صرصور بمرارة أن والده قد سُجن في سوريا بسبب نضاله من أجل الديمقراطية والحرية الفلسطينية   وأنه جاء إلى السويد في عام 1990 كطفل رضيع تحمل حفاضاته أوراق والده التي كانت بمثابة شهادة على صمود أجيال كاملة هذه الخلفية الشخصية تُضفي على النص عمقًا إنسانيًا وتربط بين الماضي والحاضر لتصبح الرواية مرآةً تعكس معاناة جيلٍ بأكمله من اللجوء والتشرد.

ولم يأتِ هذا العمل الأدبي بسهولة إذ استغرقت سنوات طويلة لتتشكل الأفكار في ذهن الكاتب قبل أن يتحول النص من مجرد قصيدة طويلة أو حتى نص درامي إلى رواية متكاملة تدمج      بين الفكاهة والصدق العاطفي فقد كان عامر صرصور في بداياته يعتمد على أسلوب الكلام الشفهي والموسيقى ليجد فيما بعد طريقه الخاص نحو الأدب المكتوب حيث واجه رفضًا             من بعض دور النشر حتى اضطر للاستماع إلى نصيحة صديق التحق بمدرسة للكتّاب في سعي منه لتحويل تجربته الشخصية إلى عمل فني يتميز بالدقة والجرأة.

من جهة أخرى تتناول الرواية بشكل نقدي قضية الجريمة المنظمة في السويد حيث يظهر أن حياة بعض أصدقاء عمر مرتبطة بدوائر الجريمة لكن الكاتب لا يرى في ذلك تعريفًا مطلقًا للمجرم، بل يُقدم فهمًا أعمق يشير إلى أن هذه الأعمال قد تكون نتيجة لضغوط نفسية ومحاولات للتعويض عن شعور بالعجز وفقدان السيطرة هكذا تُصبح الهوية موضوعًا مركبًا لا يُختزل في مجرد تسميات، بل هو نسيج متداخل من التجارب والضغوط الاجتماعية والتطلعات الفردية

وفي خضم هذه الرحلة العنيفة والمعقدة يرن صدى سؤال محوري في أذهان القارئ: "متى سينتهي هذا الدوار؟"

فالرواية تُعبّر عن فكرة أن الحياة تسير في دورات متكررة وأن الألم والأمل يتناوبان على الظهور في سردٍ يجمع بين مرارة الماضي وإشراقة المستقبل إنها دعوة إلى الحفاظ على روح المقاومة والاستمرار في الكفاح مهما بدت الظروف قاتمة، ولا مجال فيها للاستسلام

تظل رواية "Medan vi brinner" شهادة حية على قدرة الأدب على تجسيد التجارب الإنسانية بصدق وعمق إذ تمزج بين التفاصيل الدقيقة للتجارب الشخصية وبين السرد التاريخي والسياسي لتشكل لوحة معبرة عن معاناة جيل يبحث عن هويته وسط تقلبات الزمن وبينما يستمر البحث عن الانتماء والحرية تبقى هذه الرواية رمزًا للأمل الذي لا ينطفئ وللصمود الذي يقاوم كل محاولات النسيان والانكسار.

في زوايا الذاكرة المتأرجحة وبين طيات الألم والعزلة تنبثق رواية "Medan vi brinner" كمرثية شاعرية تسرد قصة الوجود الممزق بين الأمل والضياع إنها ليست مجرد حكاية عابرة، بل مرآة متصدعة تعكس وجوه الهاربين من قدرٍ لم يختاروه وأقدامهم التي تُطاردها خطى الماضي في طرقات المدن الباردة حيث يصير النسيان نوعًا آخر من الوجود وحيث يكون للحنين طعم الملح والرطوبة تمامًا كحافة قارب يترنح وسط البحر الأبيض المتوسط.

يظهر عمر ذلك الشاب ذو الثلاثة والعشرين عامًا كمن يسير على حافة هاوية متأرجحًا بين الحاضر الذي يرفضه والماضي الذي لا يزال يُطارده  تتجسد حياته كحالة دائمة من البحث غير المكتمل  كمَن يتنقل بين الأبواب المغلقة في انتظار أن يُفتح له باب لا يعرفه  كان يعيش بين برودة السويد وظلال الماضي الفلسطيني  محاصرًا بين جدران غرفته التي تبدو ككهف حديث  حيث تضيق المساحة كلما اتسع الفراغ داخله  منذ سنواته الأولى  كان قد أدرك أن العالم لا يمنح أحدًا فرصةً ليختار أصله أو ذاكرته  لكنه كان يأمل على الأقل أن يجد مساحةً للانتماء  وفي لحظة من الجنون المدفوع بالحاجة إلى معنى  قرر عمر أن يخوض مغامرة خطرة أن يهرب إلى صقلية ليجلب أبناء عمه الذين تقطعت بهم السبل في دروب اللجوء الأوروبي.

عبر البحر الأبيض المتوسط، حيث تُروى الحكايات بالأمواج وتُكتب القصص على صفحات الماء كان أبناء عمومته قد غادروا الشرق المحترق بحثًا عن حياة لا تتطلب منهم تفسير هوياتهم في كل محطة تفتيش كانت رحلتهم ملحمية لكنها ليست ذات المجد الذي تُحاك حوله الأساطير بل ذات البؤس الذي يُعيد إنتاجه التاريخ مرارًا على متن قارب مهترئ بين وجوه متعبة وأجساد تراكم فوقها الملح والعرق والخوف كانوا يبحرون كما لو أنهم خارج الزمن بلا أسماء، بلا وطن بلا يقين سوى أن اليابسة أي يابسة ستكون أكثر رحمة من البحر.

وحين وصلوا إلى شواطئ إيطاليا  لم تكن اليابسة سوى محطة أخرى من الجوع والاختباء    كان عليهم أن يواصلوا الرحلة عبر القطارات الأوروبية  بأوراق مزورة وهويات معلقة بين الحقيقة والوهم  كانوا يتسللون كما يتسلل الظل في زوايا الضوء  كل نظرة شرطي كانت بمثابة محاكمة  كل نداء عبر مكبر الصوت كان يحمل احتمال أن تكون هذه هي اللحظة التي ينتهي فيها كل شيء  لم تكن الرحلة مجرد انتقال جسدي  بل كانت هروبًا متواصلًا من قدرٍ يحاول أن يُمسك بهم  من واقع يُعيد خلق نفسه في كل محطة كأن الحياة نفسها قد أصبحت لعبة مراوغة مستمرة بين الإنسان والمصير.

في عام 2013 عندما كانت أبواب العالم تُغلق في وجوه اللاجئين  كانت قصص مثل قصتهم تتحول إلى مجرد أرقام في نشرات الأخبار  لكن خلف كل رقم  كان ثمة يدٌ ترتجف  وعينان تحملان تاريخًا من الخسارات وقلب يبحث عن نبض يطمئنه بأنه لا يزال حيًا عمر الذي لم يكن يومًا بطلاً ولا طالب مغامرات  وجد نفسه في قلب هذه الرحلة كمن يسير على حبل مشدود بين الهاوية والفراغ  لم يكن يبحث عن بطولة  لكنه كان يعلم أن عليه أن يكون الشخص الذي يساعد الآخرين على عبور الجسر الرفيع بين الظل والنور  بين العدم والوجود.

ومن بين ظلال هذه الرحلة  كانت ذاكرة عمر تتداعى  مخيم اليرموك  الأزقة الضيقة  روائح الخبز الذي يحمل طعم البقاء  وأحاديث الأجداد عن الوطن البعيد الذي لم يعد سوى صورة في ذاكرة المنفيين  كلما تحرك في قطارات أوروبا  كان يسمع أصداء خطوات والده  الذي كان سجينًا في سوريا  يصرخ في العتمة بحثًا عن عدالة لم تكن يومًا أكثر من سراب  كان يتذكر طفولته في السويد  حين كان طفلًا رضيعًا حمله والداه عبر القارات بحثًا عن مأوى                  وكانت حفاضاته تلتف حول أوراق والده الثبوتية  كما لو أن مصيره كان مكتوبًا عليه منذ ولادته.

لم تكن هذه الرواية لتُكتب بسهولة فالألم لا يُترجم إلى كلمات دون أن يترك ندوبًا في الكاتب نفسه عامر صرصور  الذي بدأ رحلته في الكتابة عبر الموسيقى والكلام الشفهي لم يكن يريد  أن يروي قصة مجردة  بل كان يريد أن يمنح ذاكرته ملمس الحبر أن يصنع من التفاصيل الصغيرة نسيجًا أدبيًا يلتقط نبض المشردين في دروب المنفى  لقد كافح من أجل نشر هذا العمل تمامًا كما كافح من أجل البقاء  ووجد أخيرًا طريقه بعد أن التحق بمدرسة للكتّاب  حيث تعلم كيف يحوّل الألم إلى فن  وكيف يصوغ السرد ليصبح صدىً لكل الأصوات التي لم تجد من يرويها.

وفي زوايا أخرى من الرواية كان هناك انعكاسٌ للمجتمع السويدي الذي بدا في ظاهره كأرض للحرية لكنه في أعماقه كان متاهة من العزلة والغربة لم يكن عمر وأصدقاؤه مجرد شخصيات تبحث عن الأمان بل كانوا مرايا تعكس كيف يمكن للإنسان أن يصبح غريبًا حتى عن نفسه  البعض انزلق في دوائر الجريمة  ليس بدافع الشر  ولكن كاستجابة لواقع لم يمنحهم سوى خيارات مستحيلة  لم يكن الكاتب يحاول تبرير شيء  بل كان يُنصت إلى طبقات أكثر عمقًا من الحقيقة  حيث لا يوجد إنسان يولد مجرمًا بل تصنعه الظروف  وتعيد تشكيله الحاجة للبقاء

وفي النهاية يرن سؤال الرواية كجرس داخل عقل القارئ:

"متى ينتهي هذا الدوار؟"

 سؤالٌ يبدو بلا إجابة لأن الحياة ذاتها تدور في حلقات من المعاناة والأمل من الهروب والعودة من الحنين والنسيان لكن وسط كل ذلك تبقى هناك حقيقة واحدة:

أن الكتابة هي الفعل الوحيد الذي يُمكن من خلاله مقاومة العدم وأن السرد هو الوسيلة الأخيرة للحفاظ على ما تبقى من ذاكرة العالم.

"Medan vi brinner" ليست مجرد رواية إنها شهادة حية على ذلك الحريق الداخلي الذي يلتهم أرواح المنفيين في صمت إنها صرخة في وجه العالم ورسالة مفادها أن الإنسان مهما كان مكسورًا لا يزال قادرًا على أن يحكي حكايته وأن يجعلها خالدة في وجه النسيان.

الوسوم

رابط مختصر : http://www.actionpal.org.uk/ar/post/21300