بقلم: ماهر حسن شاويش
ليس من السهل أن تُفتح أبواب الذاكرة في بلد خرج لتوّه من واحدة من أكثر تجارب القمع والدمار قسوة في التاريخ الحديث. لكن تشكيل "الهيئة الوطنية للمفقودين" بعد زوال نظام الأسد، يشكّل لحظة مفصلية تستحق التوقف عندها، لا بوصفها شأنًا سوريًا داخليًا فقط، بل بوصفها صوتًا مزلزلًا في الوجدان العربي، وخصوصًا الفلسطيني منه.
إن تأسيس هذه الهيئة، بعد عقود من الصمت الإجباري، هو محاولة أولى، لكتابة تاريخ لا يبدأ من الأعلى، بل من قاع الوجع. ومن هذا القاع بالتحديد، تطل علينا الذاكرة الفلسطينية، التي تعرف جيدًا معنى الغياب القسري، وتمتد لتلتقي مع نظيرتها السورية عند آلاف القصص المشتركة، لا سيما قصة فلسطينيي سوريا الذين غُيّبوا في المعتقلات، وما زالت الحقيقة عنهم غائبة حتى الآن.
ستة آلاف غياب لم يُكتب بعد
في مشهد النكبة السورية الطويلة، كانت نكبة اللاجئين الفلسطينيين هناك مضاعفة. لاجئون في الأصل، ينجون من تهجير إلى تهجير، ثم يُطوَّقون بسياسات الاشتباه والاعتقال والإخفاء.
تشير التقارير الحقوقية إلى أن أكثر من 6,000 لاجئ فلسطيني في سوريا تعرضوا للاعتقال أو الاختفاء القسري منذ عام 2011 – وهذا ما تم توثيقه، لكن الأرقام قد تكون أكبر – غيّبتهم سجون النظام السوري دون محاكمة أو توثيق أو إشعار لأهاليهم.
ولم يكن ذلك استثناءً، بل جزءًا من سياسة ممنهجة لم تفرّق كثيرًا بين مواطن سوري ولاجئ فلسطيني. إلا أن الأخير عاش غيابه بصمتٍ مضاعف، فقد كان خارج السردية الرسمية الفلسطينية، ومن دون أي متابعة جدية من الجهات التي تزعم تمثيله.
ما الذي يعنيه تأسيس الهيئة؟
تشكيل الهيئة الوطنية للمفقودين يُدخل قضية المفقودين إلى دائرة الاعتراف، ويمنح الذاكرة المؤجلة بابًا للظهور. وهي في ذات الوقت فرصة، لا فقط للسوريين، بل لكل من له مفقود أو معتقل في السجون السورية، بمن فيهم الفلسطينيون.
من هنا، فإن الهيئة لا تعني السوريين وحدهم. بل هي مدخل محتمل لكشف مصير آلاف الفلسطينيين الذين اعتُقلوا خلال السنوات الماضية، ولم يُعرف عنهم شيء. وهي أول هيئة قد تملك، في حال تمتعت بالاستقلال والدعم، صلاحيات الوصول إلى ملفات وأرشيفات وشهادات، ظلّت طيّ السرّية والتكتم منذ سنوات.
بين ذاكرة السجن وحق المعرفة
حين نتحدث عن المعتقلين الفلسطينيين، فإن أول ما يحضر هو الاحتلال الإسرائيلي، وآلاف الأسرى في سجونه. لكن الذاكرة الفلسطينية اليوم باتت موزّعة بين أكثر من غياب، وأكثر من سجن.
وفي حالة فلسطينيي سوريا، فإن القصة لم تكن تحت الاحتلال، بل في كنف نظام كان يُفترض أن يكون حاميًا لهم، فقد زعم عقودًا أنه نظام المقاومة والممانعة، ورفع شعار تحرير فلسطين. وهنا تكمن المرارة.
إنّ المطالبة بكشف مصيرهم ليست فقط حقًا إنسانيًا، بل واجب أخلاقي ووطني، يقع على عاتق كل جهة قادرة على الوصول إلى الحقيقة، وفي طليعتها الهيئة الوطنية للمفقودين التي تأسست الآن.
بوصلة لا يجب أن تنكسر
العدالة في هذا الملف ليست مطلبًا حقوقيًا فحسب، بل ركيزة لأي مصالحة حقيقية مع الماضي. فمن دون الاعتراف بالمفقودين، والاعتذار لذويهم، والبحث الجاد عن مصيرهم، تبقى أي محاولة للاستقرار السياسي ناقصة، ومهددة بالانهيار الأخلاقي.
أما بالنسبة لنا كفلسطينيين، فكل ما نطلبه هو أن لا يُستثنى فلسطينيو سوريا من هذه المسارات، وألّا يُترك ملفهم خارج طاولة الحقيقة. بل أن يكونوا شركاء في آليات البحث والكشف عن مصير المعتقلين والمختفين قسريًا من ذويهم.
حين يلتقي الوجع في الذاكرة
ربما لا نملك القدرة الآن على فتح كل أسرار السجون دفعة واحدة، لكننا نملك القدرة على عدم إغلاق أبواب الذاكرة.
تشكيل الهيئة الوطنية للمفقودين هو بداية – قد تكون شاقة – لكنها تحمل جرأة لا بد منها. وفي عيوننا الفلسطينية، نراها كنافذة صغيرة في جدار العتمة الطويل.
من الغياب إلى الحقيقة، لا بد للرحلة أن تبدأ، ولا بد للغائبين أن يُذكَروا، لا كأرقام، بل كحكايات ووجوه وحقوق لا تموت.
كاتب صحفي فلسطيني مقيم في هولندا
بقلم: ماهر حسن شاويش
ليس من السهل أن تُفتح أبواب الذاكرة في بلد خرج لتوّه من واحدة من أكثر تجارب القمع والدمار قسوة في التاريخ الحديث. لكن تشكيل "الهيئة الوطنية للمفقودين" بعد زوال نظام الأسد، يشكّل لحظة مفصلية تستحق التوقف عندها، لا بوصفها شأنًا سوريًا داخليًا فقط، بل بوصفها صوتًا مزلزلًا في الوجدان العربي، وخصوصًا الفلسطيني منه.
إن تأسيس هذه الهيئة، بعد عقود من الصمت الإجباري، هو محاولة أولى، لكتابة تاريخ لا يبدأ من الأعلى، بل من قاع الوجع. ومن هذا القاع بالتحديد، تطل علينا الذاكرة الفلسطينية، التي تعرف جيدًا معنى الغياب القسري، وتمتد لتلتقي مع نظيرتها السورية عند آلاف القصص المشتركة، لا سيما قصة فلسطينيي سوريا الذين غُيّبوا في المعتقلات، وما زالت الحقيقة عنهم غائبة حتى الآن.
ستة آلاف غياب لم يُكتب بعد
في مشهد النكبة السورية الطويلة، كانت نكبة اللاجئين الفلسطينيين هناك مضاعفة. لاجئون في الأصل، ينجون من تهجير إلى تهجير، ثم يُطوَّقون بسياسات الاشتباه والاعتقال والإخفاء.
تشير التقارير الحقوقية إلى أن أكثر من 6,000 لاجئ فلسطيني في سوريا تعرضوا للاعتقال أو الاختفاء القسري منذ عام 2011 – وهذا ما تم توثيقه، لكن الأرقام قد تكون أكبر – غيّبتهم سجون النظام السوري دون محاكمة أو توثيق أو إشعار لأهاليهم.
ولم يكن ذلك استثناءً، بل جزءًا من سياسة ممنهجة لم تفرّق كثيرًا بين مواطن سوري ولاجئ فلسطيني. إلا أن الأخير عاش غيابه بصمتٍ مضاعف، فقد كان خارج السردية الرسمية الفلسطينية، ومن دون أي متابعة جدية من الجهات التي تزعم تمثيله.
ما الذي يعنيه تأسيس الهيئة؟
تشكيل الهيئة الوطنية للمفقودين يُدخل قضية المفقودين إلى دائرة الاعتراف، ويمنح الذاكرة المؤجلة بابًا للظهور. وهي في ذات الوقت فرصة، لا فقط للسوريين، بل لكل من له مفقود أو معتقل في السجون السورية، بمن فيهم الفلسطينيون.
من هنا، فإن الهيئة لا تعني السوريين وحدهم. بل هي مدخل محتمل لكشف مصير آلاف الفلسطينيين الذين اعتُقلوا خلال السنوات الماضية، ولم يُعرف عنهم شيء. وهي أول هيئة قد تملك، في حال تمتعت بالاستقلال والدعم، صلاحيات الوصول إلى ملفات وأرشيفات وشهادات، ظلّت طيّ السرّية والتكتم منذ سنوات.
بين ذاكرة السجن وحق المعرفة
حين نتحدث عن المعتقلين الفلسطينيين، فإن أول ما يحضر هو الاحتلال الإسرائيلي، وآلاف الأسرى في سجونه. لكن الذاكرة الفلسطينية اليوم باتت موزّعة بين أكثر من غياب، وأكثر من سجن.
وفي حالة فلسطينيي سوريا، فإن القصة لم تكن تحت الاحتلال، بل في كنف نظام كان يُفترض أن يكون حاميًا لهم، فقد زعم عقودًا أنه نظام المقاومة والممانعة، ورفع شعار تحرير فلسطين. وهنا تكمن المرارة.
إنّ المطالبة بكشف مصيرهم ليست فقط حقًا إنسانيًا، بل واجب أخلاقي ووطني، يقع على عاتق كل جهة قادرة على الوصول إلى الحقيقة، وفي طليعتها الهيئة الوطنية للمفقودين التي تأسست الآن.
بوصلة لا يجب أن تنكسر
العدالة في هذا الملف ليست مطلبًا حقوقيًا فحسب، بل ركيزة لأي مصالحة حقيقية مع الماضي. فمن دون الاعتراف بالمفقودين، والاعتذار لذويهم، والبحث الجاد عن مصيرهم، تبقى أي محاولة للاستقرار السياسي ناقصة، ومهددة بالانهيار الأخلاقي.
أما بالنسبة لنا كفلسطينيين، فكل ما نطلبه هو أن لا يُستثنى فلسطينيو سوريا من هذه المسارات، وألّا يُترك ملفهم خارج طاولة الحقيقة. بل أن يكونوا شركاء في آليات البحث والكشف عن مصير المعتقلين والمختفين قسريًا من ذويهم.
حين يلتقي الوجع في الذاكرة
ربما لا نملك القدرة الآن على فتح كل أسرار السجون دفعة واحدة، لكننا نملك القدرة على عدم إغلاق أبواب الذاكرة.
تشكيل الهيئة الوطنية للمفقودين هو بداية – قد تكون شاقة – لكنها تحمل جرأة لا بد منها. وفي عيوننا الفلسطينية، نراها كنافذة صغيرة في جدار العتمة الطويل.
من الغياب إلى الحقيقة، لا بد للرحلة أن تبدأ، ولا بد للغائبين أن يُذكَروا، لا كأرقام، بل كحكايات ووجوه وحقوق لا تموت.
كاتب صحفي فلسطيني مقيم في هولندا