آمال شبلاق – مجموعة العمل
هل كان قدر الشعب الفلسطيني منذ بدء الخليقة النزوح من أرضه واللجوء إلى أصقاع الأرض؟ سؤال لطالما تردد صداه في أعماق روحي التائهة.
أينما اتجهنا تسكن أرواحنا مشاعر الغربة والحنين وعدم الانتماء.
لاجئ... وسم يصحبنا منذ نكبتنا إلى يومنا هذا.
أنا آمال شبلاق، لاجئة فلسطينية من مخيم العائدين في مدينة حمص.
مخيم العائدين الذي سمي بهذا الاسم ليعكس أحلام قاطنيه بالعودة الى وطن لم نطأه ولم نسكنه، لكن حبه راسخ في أعماقنا، تفاصيله منسوجة في عقولنا بفضل حكايا الأجداد.
في هذا المخيم، حاولت أن أبني لنفسي وأولادي وطناً صغيراً يضمنا، فسعيت جاهدة لبناء منزل متواضع. عملت أعواماً كثيرة لساعات طويلة في مركز للتجميل والعلاج الفيزيائي، وبشق الأنفس جمعت كلفة بنائه؛ فصار لنا مأوى يحتوينا ويشهد على أفراحنا وإن قلت، وعلى أتراحنا وإن كثُرت. لكن على ما يبدو فإن دوام الحال من المحال، وقدر الفلسطيني الترحال من مكان إلى آخر.
اندلعت الثورة في كل المدن السورية، وشارك في مظاهراتها اللاجئون الفلسطينيون كما المواطنون السوريون، وباتت أسماء جميع المشاركين فيها مطلوبة أمنياً بغض النظرعن أعمارهم. ابني الذي كان يبلغ من العمر حينئذ الرابعة عشرة كان من ضمنهم.
سيطر على الخوف وقررت مغادرة سوريا خشية عليه من مصير مشابه لذاك الذي آل إليه أقرانه ممن طالهم الأذى الشديد والتنكيل جرّاء مشاركتهم بالمظاهرات.
لم يكن الأمر سهلاً، فإجراءات السفر مربكة، حيث كان ينبغي تسوية وضع ابني الأمني لاستخراج الوثائق التي تخولنا مغادرة سوريا؛ كوثيقة السفر وورقة لا مانع.
وبينما كنت أسعى للحصول على الأوراق اللازمة، طال التدمير منزلي ومركز التجميل الذي كان يمثل مصدر الرزق الوحيد لي مما زاد في معاناتي.
أنقذت ما تبقى سليماً من أثاث المنزل وبعته بسعر زهيد، ومضيت تاركة ورائي ذكريات مبعثرة وبقايا من روحي.
كانت وجهتي لبنان كما كانت وجهة للكثير من اللاجئين الفلسطينيين الذين اجبرتهم الحرب في سورية على السكن داخل المخيمات الفلسطينية في لبنان وخارجها.
لا أعلم إن كان رحيلي إلى المنطقة الأقرب يعكس رغبة مدفونة داخلي لعدم الابتعاد أكثر أملاً بعودة قريبة.
وصلت وأولادي إلى لبنان وبحوزتنا مبلغ بسيط من المال، وهناك اخترت مدينة طرابلس بناءً على توصية الطبيب الذي كنت أعمل في عيادته، حيث أعطاني رقم هاتف أحد معارفه لمساعدتي باستئجار منزل يؤوينا؛ تواصلت معه وبالفعل لم يأل جهداً لمساعدتي.
وبعد أن كان لي منزل خاص، وجدت نفسي قلقة من نفاذ المال وعدم التمكن من سداد الأجرة عند نهاية كل شهر. ومما زاد في معاناتي جشع وطمع أصحاب المنازل، الذين اعتقدنا في البداية أنهم متعاطفون مع مأساتنا، لينكشف لنا بعد ذلك أن تعاطفهم الإنساني ما كان الا وهماً تلاشى عندما أدركت أن الأفضلية لمن يملك المزيد من المال.
لم يكن قد تعدى على مكوثي في أول منزل استأجرته إلا بضعة أشهر حين أتاني صاحب المنزل مطالباً إياي بإخلائه بهدف تأجيره لشخص آخر بمبلغ أعلى حيث تتراوح أجرة المنازل ما بين 200 - 400 دولار داخل المخيمات و300 - 600 دولار خارجها.
حاولت أن أثنيه عن رأيه، شرحت له وضعي المادي وعدم وجود معيل لي ولأطفالي، إلا أنه صمّ اذنيه عن كلامي ولم يبدِ أي بادرة تعاطف، بل وصل به الحال إلى أن يهددني برمي أغراضي في الشارع إذا لم أخلِ المنزل بالوقت المحدد.
أصابني الذهول وحالة من الإنكار...
هل يُعقل أن الرحمة والإنسانية مجرد سراب؟
هل يُعقل أن يتجرد الإنسان من مبادئه ويخنق صوت ضميره فقط لأجل المال!!
هو يعلم اني وحيدة مع أطفالي.
حدثت نفسي قائلة: "ما هذا الهراء الذي أفكر فيه"!!
ضحكت بمرارة من سذاجتي، وبدأت الصورة تتضح رويداً رويداً، نحن في عالم لا إنساني، الرحمة والمبادئ في هذا الزمان ما هي إلا شعارات جوفاء.
بدأت من جديد رحلة البحث عن منزل، ودخلت في دوامة التنقل بين بيوت الآجار، ومن هنا بدأت المعاناة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
العثور على منزل آخر بسعر مناسب لإمكانياتي كان ضرباً من ضروب الخيال، بحثت كثيراً والتجأت إلى الله سبحانه وتعالى، شرحت له ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، قلت له ربي ليس لي سواك، إلى من ألجأ إن لم تغثني، وأنت رب المستضعفين. واستجاب لي ربي الكريم حيث تمكنت أخيراً من استئجار منزل بسعر معقول نوعاً ما.
مرت الأيام والأشهر سراعاً، وقاربت الأموال التي بحوزتي على النفاذ فكان لا بد لي من البحث عن عمل لأكسب قوت يومي وأؤمن أجرة المنزل.
بحثت طويلاً حتى استُنزفت طاقتي، لم يكن الأمر سهلاً ولم أعثر على عمل يناسب مؤهلاتي من الأساس.
خلال رحلة البحث المضنية، صادفت فرص عمل بأجور متدنية لا تكفي لتأمين احتياجاتنا، ورغم ذلك لم تسوّل لي نفسي الرفض فلم أكن أملك ترف الاختيار وقبلت العمل لساعات طويلة وصلت إلى عشر ساعات يومياً وبأجر متدني للغاية.
كان ابني يراقبني بصمت وحزن بدت علاماته جلية على محياه الجميل، مما دفعه إلى البحث عن عمل... أي عمل حتى لو لم يكن مناسبا لعمره الصغير، وعوضاً عن الالتحاق بالمدرسة، اضطر لتحمل الأعباء معي كي لا نغرق أكثر بمستنقع الحياة البائسة.
مرت الأيام وكأنها أعوام، يخرج في الصباح يُجدّ السير والبحث عن أي فرصة عمل ويعود في المساء خالي الوفاض، مثقلاً بالهموم والعجز.
وذات يوم عاد ابني زافاً لي خبر قبوله للعمل في أحد المصانع. شعرت أن روحي مشتتة، أأفرح لمساندته لي أم أحزن على طفولته الضائعة؟ وللحظات لم تدم طويلاً تصارعت مع ضميري وفكرت أن أثنيه عن هذا العمل وتملكني الشعور بالقهر والعجز، فليس لنا من معيل، لذلك رضخت للأمر الواقع.
باشر ابني العمل، ولم تمض إلا أيام قليلة ليطالبه صاحب المصنع بتقديم أوراقه الثبوتية، ليتبين له أن ابني فلسطيني/ سوري، فأسرع باستبعاده عن العمل. تلقيت الخبر كالصاعقة، وعندها اتضحت لي الصورة أكثر وأكثر، نحن لسنا مجرد لاجئين فحسب، بل نحن لاجئون فلسطينيون مستضعفون.. وسم سيلاحقنا كيفما اتجهنا وأينما حللنا.
وهكذا، عاد القهر لينشب مخالبه في آمالنا البسيطة بتأمين قوت أيامنا التي تمر بطيئة من ثقل همومنا، لكن سريعة حين يحين موعد دفع أجرة المنزل، ويا لها من مفارقة.
ففي لبنان تُفرض القيود على الفلسطينيين، فيتم منعهم من العمل ومن السفر ومن تجديد إقامتهم.. أما المرض فهو قصة اخرى وكابوس يقض مضاجعنا، حتى بتنا نتمنى الموت على الاضطرار للذهاب إلى المشافي، حيث سنعجز عن تحمل تكاليف العلاج حتماً. لا تستغربوا أيها السادة... إنه الواقع بأحلك صوره.. ألم أخبركم أن الصورة تتضح شيئاً فشيئاً؟
نتيجة لضيق الحال، اضطررت في نهاية المطاف كما اضطر غيري من الفلسطينيين للجوء الى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) للحصول على فتات من المساعدات حيث يبلغ البدل الغذائي للشخص الواحد 27$ وهو مبلغ زهيد لا يسد الرمق.
وأثناء تقديمي الطلب، عزت علي نفسي واسترجعت قصص الأجداد؛ كنا نملك الأراضي والمنازل والمال، كنا نعيش بكرامتنا إلى أن استبيحت أرضنا وسرقت من قبل ثلة من اللصوص. هُجّرنا من فلسطين وكان الاعتقاد السائد أننا سنعود بعد انتهاء الحرب، لم ندرك حينها أن الجميع تاجر فينا، لسنا مسؤولين عمّا جرى.
تذكرت قصص أبي وهو يخبرني كيف حمل أجدادنا معهم مفاتيح منازلهم، وتشردوا وانتظروا وماتوا وما زالت بحوزتهم.
لم نقرر الرحيل عن فلسطين بإرادتنا، طلب جدي من والدي أن يصحب معه كتبه المدرسية لأن الامتحانات كانت قريبة واعتقد أننا لا بد عائدون خلال فترة وجيزة، ريثما تنتهي الحرب بانتصار الجيوش العربية! وهزمت الجيوش العربية واليوم نحن لا حول لنا ولا قوة، هُجّرنا من بلادنا لأن العالم أجمع أن اسرائيل لها الحق في فلسطين. شردنا وحاولنا بناء وطن صغير في مخيم فقير، ولكن دارت الأيام لتندلع الثورة السورية فتنزف جراح التهجير والنزوح والتشرد مرة أخرى.
أتممت تقديم طلب المساعدات وخرجت من المركز مرهقة من اسئلة تراودني:
إلى متى سيرزح اللاجئ تحت نير استعباد الدول التي تستقبله على مضض؟
إلى متى سيتاجر الجميع بقضيتنا؟
إلى متى سيبقى حلم العودة إلى فلسطين بعيد المنال؟
إلى متى؟؟
أسئلة تعتصر قلبي وقلب كل فلسطيني وما من إجابة شافية تثلج صدورنا.
آمال شبلاق – مجموعة العمل
هل كان قدر الشعب الفلسطيني منذ بدء الخليقة النزوح من أرضه واللجوء إلى أصقاع الأرض؟ سؤال لطالما تردد صداه في أعماق روحي التائهة.
أينما اتجهنا تسكن أرواحنا مشاعر الغربة والحنين وعدم الانتماء.
لاجئ... وسم يصحبنا منذ نكبتنا إلى يومنا هذا.
أنا آمال شبلاق، لاجئة فلسطينية من مخيم العائدين في مدينة حمص.
مخيم العائدين الذي سمي بهذا الاسم ليعكس أحلام قاطنيه بالعودة الى وطن لم نطأه ولم نسكنه، لكن حبه راسخ في أعماقنا، تفاصيله منسوجة في عقولنا بفضل حكايا الأجداد.
في هذا المخيم، حاولت أن أبني لنفسي وأولادي وطناً صغيراً يضمنا، فسعيت جاهدة لبناء منزل متواضع. عملت أعواماً كثيرة لساعات طويلة في مركز للتجميل والعلاج الفيزيائي، وبشق الأنفس جمعت كلفة بنائه؛ فصار لنا مأوى يحتوينا ويشهد على أفراحنا وإن قلت، وعلى أتراحنا وإن كثُرت. لكن على ما يبدو فإن دوام الحال من المحال، وقدر الفلسطيني الترحال من مكان إلى آخر.
اندلعت الثورة في كل المدن السورية، وشارك في مظاهراتها اللاجئون الفلسطينيون كما المواطنون السوريون، وباتت أسماء جميع المشاركين فيها مطلوبة أمنياً بغض النظرعن أعمارهم. ابني الذي كان يبلغ من العمر حينئذ الرابعة عشرة كان من ضمنهم.
سيطر على الخوف وقررت مغادرة سوريا خشية عليه من مصير مشابه لذاك الذي آل إليه أقرانه ممن طالهم الأذى الشديد والتنكيل جرّاء مشاركتهم بالمظاهرات.
لم يكن الأمر سهلاً، فإجراءات السفر مربكة، حيث كان ينبغي تسوية وضع ابني الأمني لاستخراج الوثائق التي تخولنا مغادرة سوريا؛ كوثيقة السفر وورقة لا مانع.
وبينما كنت أسعى للحصول على الأوراق اللازمة، طال التدمير منزلي ومركز التجميل الذي كان يمثل مصدر الرزق الوحيد لي مما زاد في معاناتي.
أنقذت ما تبقى سليماً من أثاث المنزل وبعته بسعر زهيد، ومضيت تاركة ورائي ذكريات مبعثرة وبقايا من روحي.
كانت وجهتي لبنان كما كانت وجهة للكثير من اللاجئين الفلسطينيين الذين اجبرتهم الحرب في سورية على السكن داخل المخيمات الفلسطينية في لبنان وخارجها.
لا أعلم إن كان رحيلي إلى المنطقة الأقرب يعكس رغبة مدفونة داخلي لعدم الابتعاد أكثر أملاً بعودة قريبة.
وصلت وأولادي إلى لبنان وبحوزتنا مبلغ بسيط من المال، وهناك اخترت مدينة طرابلس بناءً على توصية الطبيب الذي كنت أعمل في عيادته، حيث أعطاني رقم هاتف أحد معارفه لمساعدتي باستئجار منزل يؤوينا؛ تواصلت معه وبالفعل لم يأل جهداً لمساعدتي.
وبعد أن كان لي منزل خاص، وجدت نفسي قلقة من نفاذ المال وعدم التمكن من سداد الأجرة عند نهاية كل شهر. ومما زاد في معاناتي جشع وطمع أصحاب المنازل، الذين اعتقدنا في البداية أنهم متعاطفون مع مأساتنا، لينكشف لنا بعد ذلك أن تعاطفهم الإنساني ما كان الا وهماً تلاشى عندما أدركت أن الأفضلية لمن يملك المزيد من المال.
لم يكن قد تعدى على مكوثي في أول منزل استأجرته إلا بضعة أشهر حين أتاني صاحب المنزل مطالباً إياي بإخلائه بهدف تأجيره لشخص آخر بمبلغ أعلى حيث تتراوح أجرة المنازل ما بين 200 - 400 دولار داخل المخيمات و300 - 600 دولار خارجها.
حاولت أن أثنيه عن رأيه، شرحت له وضعي المادي وعدم وجود معيل لي ولأطفالي، إلا أنه صمّ اذنيه عن كلامي ولم يبدِ أي بادرة تعاطف، بل وصل به الحال إلى أن يهددني برمي أغراضي في الشارع إذا لم أخلِ المنزل بالوقت المحدد.
أصابني الذهول وحالة من الإنكار...
هل يُعقل أن الرحمة والإنسانية مجرد سراب؟
هل يُعقل أن يتجرد الإنسان من مبادئه ويخنق صوت ضميره فقط لأجل المال!!
هو يعلم اني وحيدة مع أطفالي.
حدثت نفسي قائلة: "ما هذا الهراء الذي أفكر فيه"!!
ضحكت بمرارة من سذاجتي، وبدأت الصورة تتضح رويداً رويداً، نحن في عالم لا إنساني، الرحمة والمبادئ في هذا الزمان ما هي إلا شعارات جوفاء.
بدأت من جديد رحلة البحث عن منزل، ودخلت في دوامة التنقل بين بيوت الآجار، ومن هنا بدأت المعاناة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
العثور على منزل آخر بسعر مناسب لإمكانياتي كان ضرباً من ضروب الخيال، بحثت كثيراً والتجأت إلى الله سبحانه وتعالى، شرحت له ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، قلت له ربي ليس لي سواك، إلى من ألجأ إن لم تغثني، وأنت رب المستضعفين. واستجاب لي ربي الكريم حيث تمكنت أخيراً من استئجار منزل بسعر معقول نوعاً ما.
مرت الأيام والأشهر سراعاً، وقاربت الأموال التي بحوزتي على النفاذ فكان لا بد لي من البحث عن عمل لأكسب قوت يومي وأؤمن أجرة المنزل.
بحثت طويلاً حتى استُنزفت طاقتي، لم يكن الأمر سهلاً ولم أعثر على عمل يناسب مؤهلاتي من الأساس.
خلال رحلة البحث المضنية، صادفت فرص عمل بأجور متدنية لا تكفي لتأمين احتياجاتنا، ورغم ذلك لم تسوّل لي نفسي الرفض فلم أكن أملك ترف الاختيار وقبلت العمل لساعات طويلة وصلت إلى عشر ساعات يومياً وبأجر متدني للغاية.
كان ابني يراقبني بصمت وحزن بدت علاماته جلية على محياه الجميل، مما دفعه إلى البحث عن عمل... أي عمل حتى لو لم يكن مناسبا لعمره الصغير، وعوضاً عن الالتحاق بالمدرسة، اضطر لتحمل الأعباء معي كي لا نغرق أكثر بمستنقع الحياة البائسة.
مرت الأيام وكأنها أعوام، يخرج في الصباح يُجدّ السير والبحث عن أي فرصة عمل ويعود في المساء خالي الوفاض، مثقلاً بالهموم والعجز.
وذات يوم عاد ابني زافاً لي خبر قبوله للعمل في أحد المصانع. شعرت أن روحي مشتتة، أأفرح لمساندته لي أم أحزن على طفولته الضائعة؟ وللحظات لم تدم طويلاً تصارعت مع ضميري وفكرت أن أثنيه عن هذا العمل وتملكني الشعور بالقهر والعجز، فليس لنا من معيل، لذلك رضخت للأمر الواقع.
باشر ابني العمل، ولم تمض إلا أيام قليلة ليطالبه صاحب المصنع بتقديم أوراقه الثبوتية، ليتبين له أن ابني فلسطيني/ سوري، فأسرع باستبعاده عن العمل. تلقيت الخبر كالصاعقة، وعندها اتضحت لي الصورة أكثر وأكثر، نحن لسنا مجرد لاجئين فحسب، بل نحن لاجئون فلسطينيون مستضعفون.. وسم سيلاحقنا كيفما اتجهنا وأينما حللنا.
وهكذا، عاد القهر لينشب مخالبه في آمالنا البسيطة بتأمين قوت أيامنا التي تمر بطيئة من ثقل همومنا، لكن سريعة حين يحين موعد دفع أجرة المنزل، ويا لها من مفارقة.
ففي لبنان تُفرض القيود على الفلسطينيين، فيتم منعهم من العمل ومن السفر ومن تجديد إقامتهم.. أما المرض فهو قصة اخرى وكابوس يقض مضاجعنا، حتى بتنا نتمنى الموت على الاضطرار للذهاب إلى المشافي، حيث سنعجز عن تحمل تكاليف العلاج حتماً. لا تستغربوا أيها السادة... إنه الواقع بأحلك صوره.. ألم أخبركم أن الصورة تتضح شيئاً فشيئاً؟
نتيجة لضيق الحال، اضطررت في نهاية المطاف كما اضطر غيري من الفلسطينيين للجوء الى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) للحصول على فتات من المساعدات حيث يبلغ البدل الغذائي للشخص الواحد 27$ وهو مبلغ زهيد لا يسد الرمق.
وأثناء تقديمي الطلب، عزت علي نفسي واسترجعت قصص الأجداد؛ كنا نملك الأراضي والمنازل والمال، كنا نعيش بكرامتنا إلى أن استبيحت أرضنا وسرقت من قبل ثلة من اللصوص. هُجّرنا من فلسطين وكان الاعتقاد السائد أننا سنعود بعد انتهاء الحرب، لم ندرك حينها أن الجميع تاجر فينا، لسنا مسؤولين عمّا جرى.
تذكرت قصص أبي وهو يخبرني كيف حمل أجدادنا معهم مفاتيح منازلهم، وتشردوا وانتظروا وماتوا وما زالت بحوزتهم.
لم نقرر الرحيل عن فلسطين بإرادتنا، طلب جدي من والدي أن يصحب معه كتبه المدرسية لأن الامتحانات كانت قريبة واعتقد أننا لا بد عائدون خلال فترة وجيزة، ريثما تنتهي الحرب بانتصار الجيوش العربية! وهزمت الجيوش العربية واليوم نحن لا حول لنا ولا قوة، هُجّرنا من بلادنا لأن العالم أجمع أن اسرائيل لها الحق في فلسطين. شردنا وحاولنا بناء وطن صغير في مخيم فقير، ولكن دارت الأيام لتندلع الثورة السورية فتنزف جراح التهجير والنزوح والتشرد مرة أخرى.
أتممت تقديم طلب المساعدات وخرجت من المركز مرهقة من اسئلة تراودني:
إلى متى سيرزح اللاجئ تحت نير استعباد الدول التي تستقبله على مضض؟
إلى متى سيتاجر الجميع بقضيتنا؟
إلى متى سيبقى حلم العودة إلى فلسطين بعيد المنال؟
إلى متى؟؟
أسئلة تعتصر قلبي وقلب كل فلسطيني وما من إجابة شافية تثلج صدورنا.