فايز أبو عيد – مجموعة العمل
قررت زيارة سوريا بعد غياب دام 13 عاماً. وكأي مواطن سوري أو فلسطيني سوري، كانت تجتاحني مشاعر جياشة ومختلطة تجمع بين الحنين والشوق والرغبة في العودة لاستكشاف التغيرات التي طرأت، واتخاذ قرار بالعودة الفورية أو التريث بناءً على ما سأشاهده وألمسه من واقع معيشي واقتصادي وخدماتي، ومن تعامل الجهات الرسمية.
عند وصولي إلى مطار دمشق الدولي، لم تكن هناك أي عقبات أو تعقيدات تُذكر في التعامل وإنهاء إجراءات السفر. ولكن المفاجأة كانت عندما أبلغني رجل أمن في المطار أنه لا يمكنني مغادرة سوريا إلا بعد أن أقوم بإلغاء أمر الحجز ومنع السفر المفروض عليّ. حاولت أن أستفسر عن السبب وما هي التهمة، إلا أنه أجابني: "يتوجب عليك التوجه إلى قصر العدل لمعرفة ذلك".
هنا بدأت المعاناة التي استمرت أربعة أيامٍ، تجوّلت خلالها بين قصر العدل والهجرة والجوازات وفرع الأمن الجنائي في عين كرش. في اليوم الأول، وعلى الرغم من أنها كانت زيارتي الأولى لقصر العدل، لم أتمكن من الحصول على أي تفسير واضح. في اليوم الثاني، وقفت في ردهة قصر العدل المكتظة بالضجيج والصراخ والازدحام، تائهاً لا أعرف إلى أين أذهب أو من أسأل. وفي خضم هذا التيه، رأيت صديقاً قديماً لي، فتنفست الصعداء وهرولت باتجاهه، وشرحت له ما حلّ بي والدوامة التي وجدتُ نفسي فيها. ابتسم وقال: "بسيطة، محلولة". أجبته باندهاش: "وكيف ذلك؟". قال لي كلمة واحدة: "عندي"، ثم طلب هويتي ولم يزد.
بعد تكليف صديقي، الذي يعمل محامياً، تبين أن السبب يعود إلى رسوم اشتراك هاتف أرضي لم تُسدَّد منذ عشر سنوات، على الرغم من أنني كنت خارج البلاد طوال تلك الفترة. والغريب أن شركة الاتصالات كانت قد رفعت دعوى ضدي للمطالبة بمبلغ 94 ألف ليرة سورية. استغرق الأمر أربعة أيام من التنقل بين الدوائر الحكومية، بالإضافة إلى دفع أتعاب المحامي التي بلغت مليوني ليرة سورية، لتسوية هذه القضية.
البيروقراطية: عقبة أكبر من الفلول
وفي تجربة مماثلة، كتب الإعلامي الفلسطيني عدنان علي على صفحته على فيسبوك عن تجربته الشخصية المعقدة مع الإجراءات البيروقراطية، قائلاً: "أردتُ استخراج وثيقة معينة، فأخبروني أنني ما زلتُ مسجلاً في قيودهم كموظف، وعليّ إحضار ورقة تثبت أنني غير موظف، علماً بأنني استقلتُ رسمياً من عملي في جريدة الثورة منذ أن غادرتُ سوريا عام 2012".
وأشار إلى أن رحلة الحصول على هذه الورقة استغرقت أكثر من أسبوع، وشملت التنقل بين عدة مؤسسات حكومية ودوائر مختلفة، حيث واجه ازدحاماً شديداً وتأخيرات متكررة، بالإضافة إلى تعقيدات إدارية موروثة من العهد السابق.
واضطر العلي إلى التنسيق مع موظفين جدد وقدامى، والاستعانة بمساعدات شخصية، بل وحتى اللجوء إلى استخدام "حيلة بسيطة" مع إحدى الموظفات لتسريع المعاملة، مما يعكس حجم التعقيد والبيروقراطية التي تعيق أبسط الإجراءات.
تعكس هذه الحالة واقعاً أوسع يعاني منه السوريون اليوم، حيث تستمر الإجراءات الورقية والبيروقراطية في عرقلة مصالح المواطنين والمستثمرين على حد سواء. وخلص العلي إلى أن سوريا تحتاج اليوم إلى ثورة إدارية داخلية لتبسيط الإجراءات والقضاء على المعاملات الورقية. وأضاف أن الآليات السائدة اليوم، ومعظمها موروث من العهد السابق ويطبقها موظفون من ذلك العهد أيضاً، لا يمكنها مواكبة مستوى التطلعات العالي لسوريا المستقبل، خصوصاً أن البلاد تنتظر تدفقاً في الاستثمارات والانفتاح الخارجي. وقال: "لا يمكن مثلاً زج مستثمر أجنبي في دوامة الأوراق كما حصل معي، ويجب الإسراع في إنجاز "النافذة الواحدة" لتقديم أي طلب، سواء من جانب المواطن أم المستثمر، وأن تتولى مؤسسات الدولة التراسل الإلكتروني فيما بينها، فلا يكون المواطن أو المستثمر هو الساعي بين تلك المؤسسات على حساب وقته وجهده وماله".
وختم العلي حديثه بالتأكيد على أنه لا ينبغي الاستهانة بهذا الجانب، "لأن الإشكالات والهدر والفساد الذي قد ينتج عن الآليات القائمة اليوم، قد يطيح بأية إنجازات ويشوش ويعرقل خطوات كبيرة تُعقد عليها الآمال. وبهذا المعنى، فإن ما تشكله من خطر يتعدى حتى الجوانب الأمنية وفلول النظام، حيث العدو واضح ومباشر، بينما هنا يستتر الفساد والتعقيد خلف الأوراق والقوانين".
الحاجة إلى قوانين وإجراءات جديدة
تعكس هذه التجارب الإجراءات التي كان يتبعها النظام السابق في سوريا، والتي تساهم في تنفير السوريين من العودة إلى وطنهم. فمثل هذه العقبات الإدارية والمالية، التي تبدو غير منطقية، خاصة في ظل ظروف الغياب أو الهجرة القسرية، تزيد من معاناة العائدين وتعرقل إعادة بناء حياتهم في سوريا.
ومن الواضح أن هناك حاجة ملحة لوضع قوانين وإجراءات جديدة تسهّل على السوريين العائدين استعادة حقوقهم والاندماج مجدداً في المجتمع دون التعرض لمشكلات قانونية أو مالية تعيقهم. ويجب أن تتضمن هذه القوانين آليات واضحة لمعالجة القضايا العالقة، وتوفير الدعم القانوني والإداري للعائدين، إلى جانب إلغاء أو تخفيض الديون والرسوم المتراكمة خلال فترة الغياب.
وهنا لا بد من طرح العديد من الأسئلة التي يتداولها الكثير من العائدين إلى سوريا، ونضع الإجابة عنها برسم الحكومة السورية الجديدة:
هل ستتخذ الحكومة السورية الجديدة خطوات جادة لإصلاح الإجراءات المعقدة التي تواجه العائدين؟ وهل هناك نية لتعديل القوانين المتعلقة بالديون والاشتراكات التي تراكمت خلال فترة الغياب القسري؟
والسؤال الأهم: كيف ستعمل السلطات على توفير بيئة قانونية وإدارية تشجع السوريين على العودة والمساهمة في إعادة إعمار البلاد؟ وهل ستوفر آليات دعم قانوني ومساعدة للعائدين لتجاوز العقبات الإدارية والمالية؟
وأخيراً، يمكن القول إنه في ظل هذه المعاناة، تُطرح الأسئلة التالية على الحكومة السورية الجديدة: هل ستتخذ خطوات حقيقية لإصلاح منظومة الإجراءات المعقدة التي تواجه العائدين؟ وهل هناك نية لتخفيف الأعباء المالية والقانونية التي تثقل كاهلهم؟ كيف ستعمل السلطات على خلق بيئة تشجع السوريين على العودة وتضمن لهم حقوقهم كاملةً دون تعقيدات؟ وهل ستوفر الحكومة آليات دعم قانوني وإداري تسهل على العائدين تجاوز العقبات؟
فايز أبو عيد – مجموعة العمل
قررت زيارة سوريا بعد غياب دام 13 عاماً. وكأي مواطن سوري أو فلسطيني سوري، كانت تجتاحني مشاعر جياشة ومختلطة تجمع بين الحنين والشوق والرغبة في العودة لاستكشاف التغيرات التي طرأت، واتخاذ قرار بالعودة الفورية أو التريث بناءً على ما سأشاهده وألمسه من واقع معيشي واقتصادي وخدماتي، ومن تعامل الجهات الرسمية.
عند وصولي إلى مطار دمشق الدولي، لم تكن هناك أي عقبات أو تعقيدات تُذكر في التعامل وإنهاء إجراءات السفر. ولكن المفاجأة كانت عندما أبلغني رجل أمن في المطار أنه لا يمكنني مغادرة سوريا إلا بعد أن أقوم بإلغاء أمر الحجز ومنع السفر المفروض عليّ. حاولت أن أستفسر عن السبب وما هي التهمة، إلا أنه أجابني: "يتوجب عليك التوجه إلى قصر العدل لمعرفة ذلك".
هنا بدأت المعاناة التي استمرت أربعة أيامٍ، تجوّلت خلالها بين قصر العدل والهجرة والجوازات وفرع الأمن الجنائي في عين كرش. في اليوم الأول، وعلى الرغم من أنها كانت زيارتي الأولى لقصر العدل، لم أتمكن من الحصول على أي تفسير واضح. في اليوم الثاني، وقفت في ردهة قصر العدل المكتظة بالضجيج والصراخ والازدحام، تائهاً لا أعرف إلى أين أذهب أو من أسأل. وفي خضم هذا التيه، رأيت صديقاً قديماً لي، فتنفست الصعداء وهرولت باتجاهه، وشرحت له ما حلّ بي والدوامة التي وجدتُ نفسي فيها. ابتسم وقال: "بسيطة، محلولة". أجبته باندهاش: "وكيف ذلك؟". قال لي كلمة واحدة: "عندي"، ثم طلب هويتي ولم يزد.
بعد تكليف صديقي، الذي يعمل محامياً، تبين أن السبب يعود إلى رسوم اشتراك هاتف أرضي لم تُسدَّد منذ عشر سنوات، على الرغم من أنني كنت خارج البلاد طوال تلك الفترة. والغريب أن شركة الاتصالات كانت قد رفعت دعوى ضدي للمطالبة بمبلغ 94 ألف ليرة سورية. استغرق الأمر أربعة أيام من التنقل بين الدوائر الحكومية، بالإضافة إلى دفع أتعاب المحامي التي بلغت مليوني ليرة سورية، لتسوية هذه القضية.
البيروقراطية: عقبة أكبر من الفلول
وفي تجربة مماثلة، كتب الإعلامي الفلسطيني عدنان علي على صفحته على فيسبوك عن تجربته الشخصية المعقدة مع الإجراءات البيروقراطية، قائلاً: "أردتُ استخراج وثيقة معينة، فأخبروني أنني ما زلتُ مسجلاً في قيودهم كموظف، وعليّ إحضار ورقة تثبت أنني غير موظف، علماً بأنني استقلتُ رسمياً من عملي في جريدة الثورة منذ أن غادرتُ سوريا عام 2012".
وأشار إلى أن رحلة الحصول على هذه الورقة استغرقت أكثر من أسبوع، وشملت التنقل بين عدة مؤسسات حكومية ودوائر مختلفة، حيث واجه ازدحاماً شديداً وتأخيرات متكررة، بالإضافة إلى تعقيدات إدارية موروثة من العهد السابق.
واضطر العلي إلى التنسيق مع موظفين جدد وقدامى، والاستعانة بمساعدات شخصية، بل وحتى اللجوء إلى استخدام "حيلة بسيطة" مع إحدى الموظفات لتسريع المعاملة، مما يعكس حجم التعقيد والبيروقراطية التي تعيق أبسط الإجراءات.
تعكس هذه الحالة واقعاً أوسع يعاني منه السوريون اليوم، حيث تستمر الإجراءات الورقية والبيروقراطية في عرقلة مصالح المواطنين والمستثمرين على حد سواء. وخلص العلي إلى أن سوريا تحتاج اليوم إلى ثورة إدارية داخلية لتبسيط الإجراءات والقضاء على المعاملات الورقية. وأضاف أن الآليات السائدة اليوم، ومعظمها موروث من العهد السابق ويطبقها موظفون من ذلك العهد أيضاً، لا يمكنها مواكبة مستوى التطلعات العالي لسوريا المستقبل، خصوصاً أن البلاد تنتظر تدفقاً في الاستثمارات والانفتاح الخارجي. وقال: "لا يمكن مثلاً زج مستثمر أجنبي في دوامة الأوراق كما حصل معي، ويجب الإسراع في إنجاز "النافذة الواحدة" لتقديم أي طلب، سواء من جانب المواطن أم المستثمر، وأن تتولى مؤسسات الدولة التراسل الإلكتروني فيما بينها، فلا يكون المواطن أو المستثمر هو الساعي بين تلك المؤسسات على حساب وقته وجهده وماله".
وختم العلي حديثه بالتأكيد على أنه لا ينبغي الاستهانة بهذا الجانب، "لأن الإشكالات والهدر والفساد الذي قد ينتج عن الآليات القائمة اليوم، قد يطيح بأية إنجازات ويشوش ويعرقل خطوات كبيرة تُعقد عليها الآمال. وبهذا المعنى، فإن ما تشكله من خطر يتعدى حتى الجوانب الأمنية وفلول النظام، حيث العدو واضح ومباشر، بينما هنا يستتر الفساد والتعقيد خلف الأوراق والقوانين".
الحاجة إلى قوانين وإجراءات جديدة
تعكس هذه التجارب الإجراءات التي كان يتبعها النظام السابق في سوريا، والتي تساهم في تنفير السوريين من العودة إلى وطنهم. فمثل هذه العقبات الإدارية والمالية، التي تبدو غير منطقية، خاصة في ظل ظروف الغياب أو الهجرة القسرية، تزيد من معاناة العائدين وتعرقل إعادة بناء حياتهم في سوريا.
ومن الواضح أن هناك حاجة ملحة لوضع قوانين وإجراءات جديدة تسهّل على السوريين العائدين استعادة حقوقهم والاندماج مجدداً في المجتمع دون التعرض لمشكلات قانونية أو مالية تعيقهم. ويجب أن تتضمن هذه القوانين آليات واضحة لمعالجة القضايا العالقة، وتوفير الدعم القانوني والإداري للعائدين، إلى جانب إلغاء أو تخفيض الديون والرسوم المتراكمة خلال فترة الغياب.
وهنا لا بد من طرح العديد من الأسئلة التي يتداولها الكثير من العائدين إلى سوريا، ونضع الإجابة عنها برسم الحكومة السورية الجديدة:
هل ستتخذ الحكومة السورية الجديدة خطوات جادة لإصلاح الإجراءات المعقدة التي تواجه العائدين؟ وهل هناك نية لتعديل القوانين المتعلقة بالديون والاشتراكات التي تراكمت خلال فترة الغياب القسري؟
والسؤال الأهم: كيف ستعمل السلطات على توفير بيئة قانونية وإدارية تشجع السوريين على العودة والمساهمة في إعادة إعمار البلاد؟ وهل ستوفر آليات دعم قانوني ومساعدة للعائدين لتجاوز العقبات الإدارية والمالية؟
وأخيراً، يمكن القول إنه في ظل هذه المعاناة، تُطرح الأسئلة التالية على الحكومة السورية الجديدة: هل ستتخذ خطوات حقيقية لإصلاح منظومة الإجراءات المعقدة التي تواجه العائدين؟ وهل هناك نية لتخفيف الأعباء المالية والقانونية التي تثقل كاهلهم؟ كيف ستعمل السلطات على خلق بيئة تشجع السوريين على العودة وتضمن لهم حقوقهم كاملةً دون تعقيدات؟ وهل ستوفر الحكومة آليات دعم قانوني وإداري تسهل على العائدين تجاوز العقبات؟