map
RSS instagram youtube twitter facebook Google Paly App stores

عدد الضحايا

حتى اليوم

4294

ذاكرة مزدوجة في منفى بلا أفق. تأملات فلسطينية سورية بعد سقوط الأسد

تاريخ النشر : 12-06-2025
ذاكرة مزدوجة في منفى بلا أفق. تأملات فلسطينية سورية بعد سقوط الأسد

نضال الخليل مجموعة العمل

حين تسقط الأعلامُ القديمةُ، تظلُّ ظلالُها ترفرفُ في صدرِ من حملَها ضدَّ إرادتِه.

لم يكن المثقفُ الفلسطينيُّ السوريُّ منذورًا للثورة، لكنّه وجدَ نفسَه داخلَها قبل أن يقرّر. لم يكن من كتّاب البياناتِ الأولى، ولا من ناشطي الصفوفِ الأماميةِ، لكنّه كان هناك في النصوصِ، في الحكاياتِ، في نقلِ صرخاتِ المظلومين من شوارعِ الحجرِ الأسودِ والمخيمِ إلى عواصمَ لا تُجيد النطقَ بـ "اليرموك".

خرج من سوريا لا كمنفىً ثانٍ، بل كمنفىً زائدٍ. خرج وهو يحملُ ما كتبَه ضدَّ الاستبدادِ، وما صمتَ عنه خشيةَ السجنِ، وما صدَّقَه من الحلمِ المشتركِ في الحريةِ. كان فلسطينيًّا بما يكفي ليتذكّرَ اللجوءَ الأولَ، وسوريًّا بما يكفي ليحملَ وِزرَ الثاني.

في بداياتِها، كتبَ عنها كما تُكتبُ القصيدةُ التي لا تُراجَعُ. كانت الثورةُ نداءً غامضًا غيرَ قابلٍ للتصنيفِ، فهو الذي عايشَ بعينِه الجدرانَ التي كُتب عليها "يسقط النظام"، وسمعَ صدى الكلماتِ في زواريبِ مخيمٍ خُنِقَ مرارًا ثم قُصِفَ علنًا.

كان دورُه آنذاك أن يوثّقَ، أن يصرخَ، أن يفتحَ النوافذَ الأوروبيةَ على صراخٍ لم تكن تسمعُه سوى الجدرانِ المهدّمةِ. لم يكن بوقًا ولا مفكّرَ سلطةٍ بديلةٍ، بل كان شاهدًا هشًّا أحيانًا، وغاضبًا من الثورةِ نفسِها أحيانًا أخرى، وباكيًا أمام صمتِها الأخيرِ.

لم يكن يرثُ سرديةَ نكبةٍ واحدةٍ، بل اثنتين: من حيفا خرجَ الجدُّ، ومن اليرموكِ خرجَ هو. الأولى رافقَها صمتُ العالمِ، والثانيةُ رافقَها تواطؤُه. لذلك، في شقّتِه الباردةِ في برلين أو ليون أو كوبنهاغن، جلس لا ليكتبَ عن بطولاتٍ خُذِلَت، بل عن ثِقَلِ التاريخِ حين يكتبُ نفسَه على أجسادِ الناجين.

اللاجئُ الذي فيه لم يكن جديدًا، بل متجدِّدًا، والمثقفُ الذي فيه لم يكن محايدًا، بل متورّطًا بكرامةٍ فكريةٍ. كان يعرفُ تمامًا أن الثورةَ ليست ملعبَه، لكنّها أيضًا لم تكن ملعبًا للجلادِ وحدَه. فكتبَ وكتبَ كثيرًا، لكنّه ظلَّ يتساءلُ:

ماذا بعد؟

ما الدورُ بعد سقوطِ البعثِ؟ ما المهمةُ بعد نهايةِ الصوتِ الواحدِ؟

في دمشق، كان دائمًا على الهامشِ، فلسطينيًّا في مدينةٍ تتظاهرُ بقبولِه. وفي أوروبا، صار هامشًا بلا مركزٍ، هامشًا ميتافيزيقيًّا لا يراه أحدٌ إلا حين تتحدّثُ التقاريرُ عن "اندماج اللاجئين".

ومع ذلك، ظلَّ يكتبُ، ليس من بابِ الأملِ، بل من بابِ المسؤوليةِ. يكتبُ عن نساءٍ فلسطينياتٍ شهدنَ المجازرَ في درعا، وعن أصدقاءَ سوريين اختفوا في سجونِ النظامِ وهم يحمونَه في المظاهراتِ، وعن الأبِ الذي مات جوعًا في اليرموكِ، وعن الأمِّ التي صمدتْ في الخيمةِ أكثرَ من أيِّ ناطحةِ سحابٍ في بروكسل.

ليس هو ابنَ سوريا وحدَها، ولا ابنَ الشتاتِ الفلسطينيِّ وحدَه. هو خلاصةُ صراعَينِ لم يكتملا: ثورةٍ انتهت بلا طغاةٍ ولا بدائلَ، وقضيةٍ تآكلتْ في أرشيفِ المنظماتِ. وبينهما، أوروبا لا تسألُه عن الحلمِ، بل عن الإقامةِ واللغةِ ومكانِ العملِ.

في الأمسياتِ الثقافيةِ، يُطلَبُ منه أن يمثّلَ "التقاطعَ الهويّاتيَّ". وفي المقاهي، يسألُه الرفاقُ المنفيونَ عن آخرِ قصيدةٍ أو عن فلسطين التي لا تعودُ. لكنّه وحده يعرفُ أنَّ الداخلَ المنكسرَ لا يُرمَّمُ بمقالٍ أو ندوةٍ. وحده يعرفُ أنَّ وظيفتَه الآن ليست إنتاجَ المعنى، بل مَنْعُ المعنى من السقوطِ التامِّ.

كتب عن الثورة، وعن اليرموك، وعن خياناتِ النُّخَبِ، ومرونةِ الجلادِ، وتعَبِ الضحايا. كتبَ حتى تَعِبَ، لكن بعد سقوطِ النظامِ، وجدَ نفسَه أمامَ سؤالٍ جديدٍ:

هل يُطلَبُ منه أن يصبحَ شاهدًا في محكمةِ التاريخِ؟ أم مهندسًا للذاكرةِ الجديدةِ؟

هل عليه أن يكتبَ عن المستقبلِ أم عن الماضي الذي لم يُدفَنْ؟

هو لا يملكُ الإجابةَ، لكنّه يعلمُ أنَّ السكوتَ خيانةٌ، وأنَّ الإكثارَ من الكلامِ أيضًا خيانةٌ. لهذا، يكتبُ كما لو أنّه يبني جسرًا فوق الماءِ.

المثقفُ الفلسطينيُّ السوريُّ اليوم لا يعيشُ "عودةً" ولا "نهايةً"، بل يعيشُ فراغًا بعد معركةٍ؛ يسيرُ فوقَ ركامٍ لا يراه أحدٌ، وينحتُ نصوصَه من حطامِ الأزمنةِ لا من وعودِها.

خفيفٌ كمن نجا، ثقيلٌ كمن رأى ولم يُصَدِّقْ، بين الثورةِ التي أحبَّها والنظامِ الذي هربَ منه والمنفى الذي لا يفهمُه. وفي كلِّ مساءٍ، يفتحُ نافذتَه في مدينةٍ لا تهمُّه، ويكتبُ سطرًا جديدًا لا يعرفُ إن كان شهادةً أم وصيةً:

"أنا الشاهدُ العابرُ، لا أملكُ وطني ولا خطابي، لكنّي أحرسُ المعنى من الانقراضِ".

ومن تلك الخِفّةِ الثقيلةِ، يولدُ النصُّ الأصدقُ؛ لا عن الوطنِ، بل عن الذين تخلّفوا عنه وكتبوا كي لا يكونَ الغيابُ هو الروايةَ الوحيدةَ.

الوسوم

رابط مختصر : http://www.actionpal.org.uk/ar/post/21623

نضال الخليل مجموعة العمل

حين تسقط الأعلامُ القديمةُ، تظلُّ ظلالُها ترفرفُ في صدرِ من حملَها ضدَّ إرادتِه.

لم يكن المثقفُ الفلسطينيُّ السوريُّ منذورًا للثورة، لكنّه وجدَ نفسَه داخلَها قبل أن يقرّر. لم يكن من كتّاب البياناتِ الأولى، ولا من ناشطي الصفوفِ الأماميةِ، لكنّه كان هناك في النصوصِ، في الحكاياتِ، في نقلِ صرخاتِ المظلومين من شوارعِ الحجرِ الأسودِ والمخيمِ إلى عواصمَ لا تُجيد النطقَ بـ "اليرموك".

خرج من سوريا لا كمنفىً ثانٍ، بل كمنفىً زائدٍ. خرج وهو يحملُ ما كتبَه ضدَّ الاستبدادِ، وما صمتَ عنه خشيةَ السجنِ، وما صدَّقَه من الحلمِ المشتركِ في الحريةِ. كان فلسطينيًّا بما يكفي ليتذكّرَ اللجوءَ الأولَ، وسوريًّا بما يكفي ليحملَ وِزرَ الثاني.

في بداياتِها، كتبَ عنها كما تُكتبُ القصيدةُ التي لا تُراجَعُ. كانت الثورةُ نداءً غامضًا غيرَ قابلٍ للتصنيفِ، فهو الذي عايشَ بعينِه الجدرانَ التي كُتب عليها "يسقط النظام"، وسمعَ صدى الكلماتِ في زواريبِ مخيمٍ خُنِقَ مرارًا ثم قُصِفَ علنًا.

كان دورُه آنذاك أن يوثّقَ، أن يصرخَ، أن يفتحَ النوافذَ الأوروبيةَ على صراخٍ لم تكن تسمعُه سوى الجدرانِ المهدّمةِ. لم يكن بوقًا ولا مفكّرَ سلطةٍ بديلةٍ، بل كان شاهدًا هشًّا أحيانًا، وغاضبًا من الثورةِ نفسِها أحيانًا أخرى، وباكيًا أمام صمتِها الأخيرِ.

لم يكن يرثُ سرديةَ نكبةٍ واحدةٍ، بل اثنتين: من حيفا خرجَ الجدُّ، ومن اليرموكِ خرجَ هو. الأولى رافقَها صمتُ العالمِ، والثانيةُ رافقَها تواطؤُه. لذلك، في شقّتِه الباردةِ في برلين أو ليون أو كوبنهاغن، جلس لا ليكتبَ عن بطولاتٍ خُذِلَت، بل عن ثِقَلِ التاريخِ حين يكتبُ نفسَه على أجسادِ الناجين.

اللاجئُ الذي فيه لم يكن جديدًا، بل متجدِّدًا، والمثقفُ الذي فيه لم يكن محايدًا، بل متورّطًا بكرامةٍ فكريةٍ. كان يعرفُ تمامًا أن الثورةَ ليست ملعبَه، لكنّها أيضًا لم تكن ملعبًا للجلادِ وحدَه. فكتبَ وكتبَ كثيرًا، لكنّه ظلَّ يتساءلُ:

ماذا بعد؟

ما الدورُ بعد سقوطِ البعثِ؟ ما المهمةُ بعد نهايةِ الصوتِ الواحدِ؟

في دمشق، كان دائمًا على الهامشِ، فلسطينيًّا في مدينةٍ تتظاهرُ بقبولِه. وفي أوروبا، صار هامشًا بلا مركزٍ، هامشًا ميتافيزيقيًّا لا يراه أحدٌ إلا حين تتحدّثُ التقاريرُ عن "اندماج اللاجئين".

ومع ذلك، ظلَّ يكتبُ، ليس من بابِ الأملِ، بل من بابِ المسؤوليةِ. يكتبُ عن نساءٍ فلسطينياتٍ شهدنَ المجازرَ في درعا، وعن أصدقاءَ سوريين اختفوا في سجونِ النظامِ وهم يحمونَه في المظاهراتِ، وعن الأبِ الذي مات جوعًا في اليرموكِ، وعن الأمِّ التي صمدتْ في الخيمةِ أكثرَ من أيِّ ناطحةِ سحابٍ في بروكسل.

ليس هو ابنَ سوريا وحدَها، ولا ابنَ الشتاتِ الفلسطينيِّ وحدَه. هو خلاصةُ صراعَينِ لم يكتملا: ثورةٍ انتهت بلا طغاةٍ ولا بدائلَ، وقضيةٍ تآكلتْ في أرشيفِ المنظماتِ. وبينهما، أوروبا لا تسألُه عن الحلمِ، بل عن الإقامةِ واللغةِ ومكانِ العملِ.

في الأمسياتِ الثقافيةِ، يُطلَبُ منه أن يمثّلَ "التقاطعَ الهويّاتيَّ". وفي المقاهي، يسألُه الرفاقُ المنفيونَ عن آخرِ قصيدةٍ أو عن فلسطين التي لا تعودُ. لكنّه وحده يعرفُ أنَّ الداخلَ المنكسرَ لا يُرمَّمُ بمقالٍ أو ندوةٍ. وحده يعرفُ أنَّ وظيفتَه الآن ليست إنتاجَ المعنى، بل مَنْعُ المعنى من السقوطِ التامِّ.

كتب عن الثورة، وعن اليرموك، وعن خياناتِ النُّخَبِ، ومرونةِ الجلادِ، وتعَبِ الضحايا. كتبَ حتى تَعِبَ، لكن بعد سقوطِ النظامِ، وجدَ نفسَه أمامَ سؤالٍ جديدٍ:

هل يُطلَبُ منه أن يصبحَ شاهدًا في محكمةِ التاريخِ؟ أم مهندسًا للذاكرةِ الجديدةِ؟

هل عليه أن يكتبَ عن المستقبلِ أم عن الماضي الذي لم يُدفَنْ؟

هو لا يملكُ الإجابةَ، لكنّه يعلمُ أنَّ السكوتَ خيانةٌ، وأنَّ الإكثارَ من الكلامِ أيضًا خيانةٌ. لهذا، يكتبُ كما لو أنّه يبني جسرًا فوق الماءِ.

المثقفُ الفلسطينيُّ السوريُّ اليوم لا يعيشُ "عودةً" ولا "نهايةً"، بل يعيشُ فراغًا بعد معركةٍ؛ يسيرُ فوقَ ركامٍ لا يراه أحدٌ، وينحتُ نصوصَه من حطامِ الأزمنةِ لا من وعودِها.

خفيفٌ كمن نجا، ثقيلٌ كمن رأى ولم يُصَدِّقْ، بين الثورةِ التي أحبَّها والنظامِ الذي هربَ منه والمنفى الذي لا يفهمُه. وفي كلِّ مساءٍ، يفتحُ نافذتَه في مدينةٍ لا تهمُّه، ويكتبُ سطرًا جديدًا لا يعرفُ إن كان شهادةً أم وصيةً:

"أنا الشاهدُ العابرُ، لا أملكُ وطني ولا خطابي، لكنّي أحرسُ المعنى من الانقراضِ".

ومن تلك الخِفّةِ الثقيلةِ، يولدُ النصُّ الأصدقُ؛ لا عن الوطنِ، بل عن الذين تخلّفوا عنه وكتبوا كي لا يكونَ الغيابُ هو الروايةَ الوحيدةَ.

الوسوم

رابط مختصر : http://www.actionpal.org.uk/ar/post/21623