نضال الخليل – مجموعة العمل
ربما لا تلتقي الحكاية الفلسطينية في سوريا بعد سقوط بشار الأسد سوى في نقطة غامضة على مفترق الطرق، حيث لا الزمنُ يتوقف ولا الذاكرة تستكين. هنا، في هذا المفترق، تتلاشى الحدود بين الماضي والحاضر، بين الحقيقة والسراب، حيث الهوية نفسها تبدو وكأنها مسرحية تدور في دوائر مغلقة من التشظي والغربة.
الحقيقة إذن ليست حقيقة واحدة، بل لوحات متراكمة من الألم والأمل والشك، ذاكرة تُشرّد لا تترك شيئًا إلا لتغيب، وحاضر يتسرب عبر أصابع الضباب.
في بداية ديسمبر 2024، دخل الفلسطيني السوري إلى حقبة جديدة حيث ضباب السياسة واللايقين يشكلان قماشة الواقع، الحكومة الجديدة في صمتها تقدم لنا نسخة قاتمة من الانتظار، وكأنها تجسد حالة اللاقرار التي تلتهم كل احتمالات التغيير، وفي المقابل، تئن المخيمات ليست فقط أماكن تشرّد، بل مخازن ذاكرة متداعية تمزقها رياح الحزن والخذلان.
العائلة المُمزقة والذاكرة التي لا تموت
العائلة هنا ليست فقط علاقة دم، بل جذر وجودي ونواة لتشكيل الذات ومرآة للذاكرة الجمعية. لكنها، كما في كل مأساة إنسانية، كيان هشّ يخضع لقانون التفتت. الأب الذي كان في زمن الاستقرار رمزًا للقوة والحماية صار اليوم غائبًا في تفاصيل الغربة والغياب القسري، والأم تمارس فن التوازن على حبال هشاشة لا ترى نهايتها.
الذاكرة الفلسطينية لا تنتهي، بل تتكرر كحلم مزعج، وكنداء يتردد في صمت الأيام. ليست مجرد استذكار لوطن ضائع، بل صيرورة ألم مستمر، تساؤلات متكررة تحفر في العقل والروح: كيف نواصل الوجود وسط هذا التمزق؟ كيف تُنسج هوية من خيوط تذويب وشتات؟
تلك الإحصاءات: سبعون بالمئة من الأسر بلا معيل أو في فقر، ليست مجرد أرقام باردة، بل نبضات موجوعة في قلب الزمن تسرد قصة تفكك لم تتوقف.
التعليم بين الجرح والضبابية
التعليم في هذه الدوامة هو محاولة لالتقاط خيط من المستقبل وسط ماضٍ محطم، حلم يتشبث به الفلسطينيون كإنقاذ، لكنه في الواقع هشّ يتهاوى مع انعدام السياسة الواضحة ومع انهيار المؤسسات التي كانت منارات ثقافية في زمن ما.
مدارس المخيمات كانت منذ زمن رموزًا للمقاومة، لكنها اليوم مهددة بالزوال، تفتقر إلى الجذور، إلى المعلمين، إلى الاستمرارية. الفتيات اللواتي ينسحبن من هذا الحلم يشكلن صورة مرآة لوهن الواقع ولعبء الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية.
البيانات الأممية تتحدث عن أكثر من نصف الأطفال خارج التعليم الرسمي، يعيشون في فراغ غير معترف به، يراوحون بين ظلال الدروس المؤقتة وأوهام الانتماء.
غياب التوجيه الفكري الوطني ليس فقط فراغًا إداريًا، بل صمتٌ ثقيل يقتل الانتماء قبل أن يولد، ويترك الأجيال القادمة في دوامة من التشكيك والفراغ.
العمل... وهم الاستقرار
العمل ليس مجرد نشاط اقتصادي، بل هو تأكيد للوجود، هو الحضور في العالم، هو تعريف الذات عبر الفعل. لكن الفلسطيني في سوريا اليوم يعيش انقطاعًا مع هذا الفعل، محاصرًا بقوانين تمنع وباقتصاد يغرق في الهاوية.
وعود الحكومة الجديدة تظل في فضاء اللامرئية، أما البطالة التي تتجاوز 60% فهي حقيقة ملموسة تشكل خزانًا من العجز واليأس.
يلجأ البعض إلى السوق السوداء أو الهجرة، ليست فقط كخيار اقتصادي، بل كرد فعل وجودي على تحلل شبكات الدعم والعلاقات الأسرية والاجتماعية. العمل يصبح وهمًا والاستقرار خيالًا بعيد المنال.
والمؤسسات الفلسطينية في سوريا تشبه مرايا مشوهة للحالة الوطنية، تشتت وانقسامات وانكماش على الذات. هي فضاءات لا تحتضن الفلسطيني، بل تمارس عليه هامشية لا تفضي إلى قوة، بل إلى ضعف أعمق.
هذه المؤسسات، رغم اسمها، تبدو عالقة بين الانقسامات السياسية ونقص التمويل، بين تقوقع ذاتي واستبعاد أصوات الشباب، حتى أصبحت عاجزة عن مواجهة جراح النفوس والمجتمعات.
هذا التمزق المؤسساتي ليس مشكلة تنظيمية فقط، بل هو تجسيد لتمزق الهوية الوطنية نفسها، فتعجز عن التأسيس لشبكة دعم حقيقية وفعالة.
ما بين الذاكرة والمجهول... الغربة في الداخل
الغربة، في أدقّ صورها، ليست هروبًا من مكان، بل انفصال عن الذات، نزف في الوعي، إقصاء للروح. هي التي يعيشها فلسطيني سوريا اليوم، حيث تصبح الغربة معادلة كونية تنسف جذور الإنسان في وطنه.
طفل يرفض أن يعلن عن وطنه، كأنه يتخلى عن قطعة من ذاته. أب يبكي على صورة تتلاشى، عائلة تتوارى عن الأسئلة، وشباب يعانقون اللامبالاة السياسية.
هذه الغربة تحفر في الأعماق، تذكي جراحًا نفسية تتشابك مع هشاشة الأسرة وتفتت الروابط الاجتماعية. وفي غياب خطاب رسمي واضح، يظل الفلسطيني معلقًا في فضاء من الألم والانتظار، بين ذكريات تنزف وأفق مجهول لا يلوح في الأفق سوى بظلاله.
ها نحن في ربيع 2025، أمام مأساة فلسطينيي سوريا التي تتخطى كونها مجرد واقع اجتماعي لتصبح حالة وجودية، تساؤل مفتوح عن الذاكرة والهوية والمصير.
لا الحكومة الجديدة ولا المؤسسات ولا الواقع اليومي يقدمون بوصلة أو دربًا للخروج. يبقى الفلسطيني في قلب هذه الدوامة يتمسك بصمت الذاكرة، يحاول أن يشد عرى الأسرة التي تكافح كي لا تنهار، ويحلم بالعمل والتعليم كطوق نجاة ضئيل.
في النهاية، ربما تبقى هذه الدوامة ذاتها هي الحقيقة الوحيدة: أننا أمام مصير إنساني ممزق، حيث الهوية لا تُولد إلا في صراع مستمر بين الغربة والذاكرة، بين الانكسار والأمل.
نضال الخليل – مجموعة العمل
ربما لا تلتقي الحكاية الفلسطينية في سوريا بعد سقوط بشار الأسد سوى في نقطة غامضة على مفترق الطرق، حيث لا الزمنُ يتوقف ولا الذاكرة تستكين. هنا، في هذا المفترق، تتلاشى الحدود بين الماضي والحاضر، بين الحقيقة والسراب، حيث الهوية نفسها تبدو وكأنها مسرحية تدور في دوائر مغلقة من التشظي والغربة.
الحقيقة إذن ليست حقيقة واحدة، بل لوحات متراكمة من الألم والأمل والشك، ذاكرة تُشرّد لا تترك شيئًا إلا لتغيب، وحاضر يتسرب عبر أصابع الضباب.
في بداية ديسمبر 2024، دخل الفلسطيني السوري إلى حقبة جديدة حيث ضباب السياسة واللايقين يشكلان قماشة الواقع، الحكومة الجديدة في صمتها تقدم لنا نسخة قاتمة من الانتظار، وكأنها تجسد حالة اللاقرار التي تلتهم كل احتمالات التغيير، وفي المقابل، تئن المخيمات ليست فقط أماكن تشرّد، بل مخازن ذاكرة متداعية تمزقها رياح الحزن والخذلان.
العائلة المُمزقة والذاكرة التي لا تموت
العائلة هنا ليست فقط علاقة دم، بل جذر وجودي ونواة لتشكيل الذات ومرآة للذاكرة الجمعية. لكنها، كما في كل مأساة إنسانية، كيان هشّ يخضع لقانون التفتت. الأب الذي كان في زمن الاستقرار رمزًا للقوة والحماية صار اليوم غائبًا في تفاصيل الغربة والغياب القسري، والأم تمارس فن التوازن على حبال هشاشة لا ترى نهايتها.
الذاكرة الفلسطينية لا تنتهي، بل تتكرر كحلم مزعج، وكنداء يتردد في صمت الأيام. ليست مجرد استذكار لوطن ضائع، بل صيرورة ألم مستمر، تساؤلات متكررة تحفر في العقل والروح: كيف نواصل الوجود وسط هذا التمزق؟ كيف تُنسج هوية من خيوط تذويب وشتات؟
تلك الإحصاءات: سبعون بالمئة من الأسر بلا معيل أو في فقر، ليست مجرد أرقام باردة، بل نبضات موجوعة في قلب الزمن تسرد قصة تفكك لم تتوقف.
التعليم بين الجرح والضبابية
التعليم في هذه الدوامة هو محاولة لالتقاط خيط من المستقبل وسط ماضٍ محطم، حلم يتشبث به الفلسطينيون كإنقاذ، لكنه في الواقع هشّ يتهاوى مع انعدام السياسة الواضحة ومع انهيار المؤسسات التي كانت منارات ثقافية في زمن ما.
مدارس المخيمات كانت منذ زمن رموزًا للمقاومة، لكنها اليوم مهددة بالزوال، تفتقر إلى الجذور، إلى المعلمين، إلى الاستمرارية. الفتيات اللواتي ينسحبن من هذا الحلم يشكلن صورة مرآة لوهن الواقع ولعبء الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية.
البيانات الأممية تتحدث عن أكثر من نصف الأطفال خارج التعليم الرسمي، يعيشون في فراغ غير معترف به، يراوحون بين ظلال الدروس المؤقتة وأوهام الانتماء.
غياب التوجيه الفكري الوطني ليس فقط فراغًا إداريًا، بل صمتٌ ثقيل يقتل الانتماء قبل أن يولد، ويترك الأجيال القادمة في دوامة من التشكيك والفراغ.
العمل... وهم الاستقرار
العمل ليس مجرد نشاط اقتصادي، بل هو تأكيد للوجود، هو الحضور في العالم، هو تعريف الذات عبر الفعل. لكن الفلسطيني في سوريا اليوم يعيش انقطاعًا مع هذا الفعل، محاصرًا بقوانين تمنع وباقتصاد يغرق في الهاوية.
وعود الحكومة الجديدة تظل في فضاء اللامرئية، أما البطالة التي تتجاوز 60% فهي حقيقة ملموسة تشكل خزانًا من العجز واليأس.
يلجأ البعض إلى السوق السوداء أو الهجرة، ليست فقط كخيار اقتصادي، بل كرد فعل وجودي على تحلل شبكات الدعم والعلاقات الأسرية والاجتماعية. العمل يصبح وهمًا والاستقرار خيالًا بعيد المنال.
والمؤسسات الفلسطينية في سوريا تشبه مرايا مشوهة للحالة الوطنية، تشتت وانقسامات وانكماش على الذات. هي فضاءات لا تحتضن الفلسطيني، بل تمارس عليه هامشية لا تفضي إلى قوة، بل إلى ضعف أعمق.
هذه المؤسسات، رغم اسمها، تبدو عالقة بين الانقسامات السياسية ونقص التمويل، بين تقوقع ذاتي واستبعاد أصوات الشباب، حتى أصبحت عاجزة عن مواجهة جراح النفوس والمجتمعات.
هذا التمزق المؤسساتي ليس مشكلة تنظيمية فقط، بل هو تجسيد لتمزق الهوية الوطنية نفسها، فتعجز عن التأسيس لشبكة دعم حقيقية وفعالة.
ما بين الذاكرة والمجهول... الغربة في الداخل
الغربة، في أدقّ صورها، ليست هروبًا من مكان، بل انفصال عن الذات، نزف في الوعي، إقصاء للروح. هي التي يعيشها فلسطيني سوريا اليوم، حيث تصبح الغربة معادلة كونية تنسف جذور الإنسان في وطنه.
طفل يرفض أن يعلن عن وطنه، كأنه يتخلى عن قطعة من ذاته. أب يبكي على صورة تتلاشى، عائلة تتوارى عن الأسئلة، وشباب يعانقون اللامبالاة السياسية.
هذه الغربة تحفر في الأعماق، تذكي جراحًا نفسية تتشابك مع هشاشة الأسرة وتفتت الروابط الاجتماعية. وفي غياب خطاب رسمي واضح، يظل الفلسطيني معلقًا في فضاء من الألم والانتظار، بين ذكريات تنزف وأفق مجهول لا يلوح في الأفق سوى بظلاله.
ها نحن في ربيع 2025، أمام مأساة فلسطينيي سوريا التي تتخطى كونها مجرد واقع اجتماعي لتصبح حالة وجودية، تساؤل مفتوح عن الذاكرة والهوية والمصير.
لا الحكومة الجديدة ولا المؤسسات ولا الواقع اليومي يقدمون بوصلة أو دربًا للخروج. يبقى الفلسطيني في قلب هذه الدوامة يتمسك بصمت الذاكرة، يحاول أن يشد عرى الأسرة التي تكافح كي لا تنهار، ويحلم بالعمل والتعليم كطوق نجاة ضئيل.
في النهاية، ربما تبقى هذه الدوامة ذاتها هي الحقيقة الوحيدة: أننا أمام مصير إنساني ممزق، حيث الهوية لا تُولد إلا في صراع مستمر بين الغربة والذاكرة، بين الانكسار والأمل.