ماهر حسن شاويش
“بدي عظم وأعمل قبر لابني وزوره” – شهادة تختصر وجع آلاف العائلات السورية التي تبحث عن الحقيقة.
في اليوم العالمي للاختفاء القسري، يُفتح الجرح السوري من جديد. آلاف العائلات تبحث حتى اليوم عن خيط يوصلها للحقيقة، أو عن قبر تزوره. وفي مواجهة هذا الغياب، يكشف وثائقي “صناعة الموت” أن ما جرى في سورية لم يكن فوضى عشوائية في زمن الحرب، بل سياسة ممنهجة صاغتها مؤسسات النظام الأمنية، ووثقتها يوماً بيوم.
صيدنايا.. بوابة المجهول
من سجن صيدنايا بدأت رحلة الغياب. “سبع بلاطات بعيداً عن الباب” كانت المسافة التي تفصل السجين عن مهجع الموت.
منذ عام 2013، عبر الآلاف أبواب هذا السجن ولم يخرجوا. لم يكن الاعتقال مجرد حرمان من الحرية، بل مقدمة للإعدام البطيء أو الدخول في عالم المجهول، ومنه إلى شاحنات الموت التي تقود الأجساد إلى المصير الأخير.
مشافٍ تحولت إلى فروع أمن
المشافي السورية، التي يُفترض أن تكون مساحات للشفاء، تحولت إلى محطات عبور نحو المقابر. يومياً، ما بين خمسين إلى مئة جثة تصل إلى مشفى دمشق، بحسب شهادة أحد الموظفين.
يصل المعتقلون مقيّدين وأيديهم إلى الخلف، مطمشي العينين، وبرصاصة واحدة في الرأس يُنهي النظام حياتهم. ومن يصل وفيه رمق من حياة، نادراً ما يعيش أكثر من 24 ساعة.
ومع مرور الوقت، صارت هذه المشافي تصدر تقارير أمنية أكثر مما تُصدر فحوصاً طبية.
صور الموت ورماده
على مدار سنوات، جُمعت أكثر من ستة آلاف صورة لجثث ضحايا التعذيب والإعدامات. وجوه بلا ملامح، أجساد موشومة بالرصاص والكيّ، وصور لا تزال شاهدة على البشاعة.
لم يكتفِ النظام بذلك، بل لجأ إلى إحراق الجثث بالدواليب لتغيير معالمها، حتى اضطر إلى جلب دواليب ونقلها من مكان إلى آخر.
الموت بهذه الطريقة لم يكن نهاية، بل عملية محو للهوية.
المقابر الجماعية.. الجغرافيا السوداء
من أم النصر في حمص إلى نجها والقطيفة والسبينة قرب دمشق، تحولت الأراضي السورية إلى خرائط للموت الجماعي.
مقابر بلا أسماء ضمت جثثاً مجهولة، دفنت تحت التراب وأغلقت معها أبواب الحقيقة. لم يعد للضحايا شاهد، ولا لعائلاتهم عزاء.
جهاز الفاتح 115.. العين التي اخترقت جدار الصمت
لكن القصة لم تنتهِ عند هذا الإخفاء. فمنذ عام 2013، كان هناك جهاز يُدعى “الفاتح 115” يتابع ما يجري من قلب المنظومة الأمنية نفسها.
عبر اختراق غير مسبوق لأجهزة النظام، حصل هذا الجهاز على التقارير اليومية التي كانت تصدرها المخابرات العسكرية عن المعتقلين والوفيات.
كل معلومة وثّقها النظام وصلت إلى أرشيف “الفاتح”: أسماء المعتقلين، أوامر الإعدام، أعداد الموتى، وأماكن الدفن.
وبجهد 115 موظفاً تقنياً وميدانياً، تحولت هذه المتابعة إلى أضخم قاعدة بيانات عن المفقودين والمعتقلين والمُعدَمين في سوريا.
قرابة مليون إنسان بين مختفٍ وقتيل ومعتقل موثقون في سجلات النظام التي انقلبت شاهدة عليه.
وهذا يكشف أن ما جرى لم يكن انحرافاً عشوائياً أو عملاً فوضوياً، بل سياسة دولة ممنهجة لإدارة عمليات صناعة الموت والإخفاء.
فلسطينيّو سوريا.. جزء من الحكاية
المأساة لم تقف عند حدود السوريين وحدهم، بل طالت أيضاً فلسطينيي سوريا الذين عاشوا المصير ذاته. من مخيم حندرات شمالاً مروراً بمخيم اليرموك إلى خان الشيح والسبينة وكل المخيمات والتجمعات الفلسطينية وصولاً حتى درعا جنوباً ، دخل آلاف الفلسطينيين أقبية السجون ذاتها، وغابوا في المجهول نفسه.
ومع الوعد الذي أطلقه منتجو الوثائقي بإتاحة قاعدة بيانات “الفاتح 115” لعامة الناس خلال شهر من الآن، يترقب عشرات الآلاف من العائلات السورية والفلسطينية هذه اللحظة التي قد تُطفئ بعضاً من لهيب الانتظار.
فهل تطوي هذه العائلات صفحات حزن امتدت لأكثر من عقد، وتقرّ عيونها وقلوبها بمعلومة تطفئ النار المتقدة منذ سنوات؟
أم أن الحقيقة القادمة ستفتح جراحاً جديدة في مواجهة هول ما كُشف من صناعة الموت؟
الخاتمة
“صناعة الموت” في سورية ليست مجازاً، بل توصيفاً دقيقاً لمنظومة حوّلت السجون إلى مقاصل، والمشافي إلى فروع أمن، والدواليب إلى محارق، والأراضي الزراعية إلى مقابر جماعية.
ومع كل ذلك، حاول النظام أن يمحو آثار الجريمة، لكن جهاز “الفاتح 115” حوّل التوثيق الداخلي إلى أرشيف مفتوح يفضح القاتل بأدواته نفسها.
في اليوم العالمي للاختفاء القسري، تبقى المطالب واضحة:
• كشف مصير المفقودين.
• تسليم الجثامين إلى ذويها.
• محاسبة المسؤولين عن تحويل البلاد إلى مصانع موت جماعي.
وبكلمة.. لكل ضحية حق في اسم وقبر، ولكل عائلة من ذوي الضحايا حق في معرفة الحقيقة. وفي هذا اليوم، لا يطالب السوريون والفلسطينيون فقط بالذاكرة، بل بالعدالة أيضاً.
*كاتب صحفي فلسطيني مقيم في هولندا
ماهر حسن شاويش
“بدي عظم وأعمل قبر لابني وزوره” – شهادة تختصر وجع آلاف العائلات السورية التي تبحث عن الحقيقة.
في اليوم العالمي للاختفاء القسري، يُفتح الجرح السوري من جديد. آلاف العائلات تبحث حتى اليوم عن خيط يوصلها للحقيقة، أو عن قبر تزوره. وفي مواجهة هذا الغياب، يكشف وثائقي “صناعة الموت” أن ما جرى في سورية لم يكن فوضى عشوائية في زمن الحرب، بل سياسة ممنهجة صاغتها مؤسسات النظام الأمنية، ووثقتها يوماً بيوم.
صيدنايا.. بوابة المجهول
من سجن صيدنايا بدأت رحلة الغياب. “سبع بلاطات بعيداً عن الباب” كانت المسافة التي تفصل السجين عن مهجع الموت.
منذ عام 2013، عبر الآلاف أبواب هذا السجن ولم يخرجوا. لم يكن الاعتقال مجرد حرمان من الحرية، بل مقدمة للإعدام البطيء أو الدخول في عالم المجهول، ومنه إلى شاحنات الموت التي تقود الأجساد إلى المصير الأخير.
مشافٍ تحولت إلى فروع أمن
المشافي السورية، التي يُفترض أن تكون مساحات للشفاء، تحولت إلى محطات عبور نحو المقابر. يومياً، ما بين خمسين إلى مئة جثة تصل إلى مشفى دمشق، بحسب شهادة أحد الموظفين.
يصل المعتقلون مقيّدين وأيديهم إلى الخلف، مطمشي العينين، وبرصاصة واحدة في الرأس يُنهي النظام حياتهم. ومن يصل وفيه رمق من حياة، نادراً ما يعيش أكثر من 24 ساعة.
ومع مرور الوقت، صارت هذه المشافي تصدر تقارير أمنية أكثر مما تُصدر فحوصاً طبية.
صور الموت ورماده
على مدار سنوات، جُمعت أكثر من ستة آلاف صورة لجثث ضحايا التعذيب والإعدامات. وجوه بلا ملامح، أجساد موشومة بالرصاص والكيّ، وصور لا تزال شاهدة على البشاعة.
لم يكتفِ النظام بذلك، بل لجأ إلى إحراق الجثث بالدواليب لتغيير معالمها، حتى اضطر إلى جلب دواليب ونقلها من مكان إلى آخر.
الموت بهذه الطريقة لم يكن نهاية، بل عملية محو للهوية.
المقابر الجماعية.. الجغرافيا السوداء
من أم النصر في حمص إلى نجها والقطيفة والسبينة قرب دمشق، تحولت الأراضي السورية إلى خرائط للموت الجماعي.
مقابر بلا أسماء ضمت جثثاً مجهولة، دفنت تحت التراب وأغلقت معها أبواب الحقيقة. لم يعد للضحايا شاهد، ولا لعائلاتهم عزاء.
جهاز الفاتح 115.. العين التي اخترقت جدار الصمت
لكن القصة لم تنتهِ عند هذا الإخفاء. فمنذ عام 2013، كان هناك جهاز يُدعى “الفاتح 115” يتابع ما يجري من قلب المنظومة الأمنية نفسها.
عبر اختراق غير مسبوق لأجهزة النظام، حصل هذا الجهاز على التقارير اليومية التي كانت تصدرها المخابرات العسكرية عن المعتقلين والوفيات.
كل معلومة وثّقها النظام وصلت إلى أرشيف “الفاتح”: أسماء المعتقلين، أوامر الإعدام، أعداد الموتى، وأماكن الدفن.
وبجهد 115 موظفاً تقنياً وميدانياً، تحولت هذه المتابعة إلى أضخم قاعدة بيانات عن المفقودين والمعتقلين والمُعدَمين في سوريا.
قرابة مليون إنسان بين مختفٍ وقتيل ومعتقل موثقون في سجلات النظام التي انقلبت شاهدة عليه.
وهذا يكشف أن ما جرى لم يكن انحرافاً عشوائياً أو عملاً فوضوياً، بل سياسة دولة ممنهجة لإدارة عمليات صناعة الموت والإخفاء.
فلسطينيّو سوريا.. جزء من الحكاية
المأساة لم تقف عند حدود السوريين وحدهم، بل طالت أيضاً فلسطينيي سوريا الذين عاشوا المصير ذاته. من مخيم حندرات شمالاً مروراً بمخيم اليرموك إلى خان الشيح والسبينة وكل المخيمات والتجمعات الفلسطينية وصولاً حتى درعا جنوباً ، دخل آلاف الفلسطينيين أقبية السجون ذاتها، وغابوا في المجهول نفسه.
ومع الوعد الذي أطلقه منتجو الوثائقي بإتاحة قاعدة بيانات “الفاتح 115” لعامة الناس خلال شهر من الآن، يترقب عشرات الآلاف من العائلات السورية والفلسطينية هذه اللحظة التي قد تُطفئ بعضاً من لهيب الانتظار.
فهل تطوي هذه العائلات صفحات حزن امتدت لأكثر من عقد، وتقرّ عيونها وقلوبها بمعلومة تطفئ النار المتقدة منذ سنوات؟
أم أن الحقيقة القادمة ستفتح جراحاً جديدة في مواجهة هول ما كُشف من صناعة الموت؟
الخاتمة
“صناعة الموت” في سورية ليست مجازاً، بل توصيفاً دقيقاً لمنظومة حوّلت السجون إلى مقاصل، والمشافي إلى فروع أمن، والدواليب إلى محارق، والأراضي الزراعية إلى مقابر جماعية.
ومع كل ذلك، حاول النظام أن يمحو آثار الجريمة، لكن جهاز “الفاتح 115” حوّل التوثيق الداخلي إلى أرشيف مفتوح يفضح القاتل بأدواته نفسها.
في اليوم العالمي للاختفاء القسري، تبقى المطالب واضحة:
• كشف مصير المفقودين.
• تسليم الجثامين إلى ذويها.
• محاسبة المسؤولين عن تحويل البلاد إلى مصانع موت جماعي.
وبكلمة.. لكل ضحية حق في اسم وقبر، ولكل عائلة من ذوي الضحايا حق في معرفة الحقيقة. وفي هذا اليوم، لا يطالب السوريون والفلسطينيون فقط بالذاكرة، بل بالعدالة أيضاً.
*كاتب صحفي فلسطيني مقيم في هولندا