map
RSS instagram youtube twitter facebook Google Paly App stores

عدد الضحايا

حتى اليوم

4294

في حضرة الغياب. الفلسطيني السوري بين الذاكرة والعدم

تاريخ النشر : 27-10-2025
في حضرة الغياب. الفلسطيني السوري بين الذاكرة والعدم

مجموعة العمل - نضال الخليل

​الغياب ليس مجرد فراغ يُضاف إلى الفراغ. إنه يشبه عاصفة هادئة تمرّ بين الأرواح، تُعيد ترتيب الأشياء، وتُعيد تعريف الهوية. الفلسطيني السوري يعرف الغياب كحقيقة يومية قبل أن يعرف الوطن، كأنه نسخة ثانية من ذاته، نسخة أعمق وأكثر قسوة. الاسم نفسه يصبح مرآة للغياب، ويتحول إلى حجر صغير يُرمى في بحر من الذاكرة ليبقى حاضرًا على الرغم من كل شيء.

أسماؤنا لا تموت، لكنها لا تُنادى

​هكذا يكتب الفلسطيني السوري مصيره: في المخيم، وفي الزوايا المظلمة للمدينة، وفي الأزقة الضيقة التي تتحوّل إلى سجلات غير مرئية للغائبين. في هذا الغياب، كل كلمة تحمل وزنًا وجوديًا، وكل تذكّر لصوتٍ مفقود هو محاولة للحياة نفسها.

حين يختفي الجسد ويبقى الاسم

​الغياب الفردي هو السقوط في فراغ لا تُعرف له نهاية. سقوطٌ لا يُسمع منه إلا صدى الأسماء المفقودة. هناك ماجد محمد شمر، اعتُقل عام 2013 في مشروع دمّر. جسده اختفى كما لو أن الأرض ابتلعته، وترك الاسم يتردد بين الأصدقاء كتعويذة، كصوتٍ من الماضي يرفض الانصياع للحاضر.

​وسيم محمود بدران، الذي اختفى في درعا عام 2014، صار اسمه على جدران المخيم أشبه برسالة عاجلة من الزمان نفسه: "هنا كنت وهنا سأبقى، حتى لو لم تعد العيون تراني".

​عبد العزيز محمود عباس (مواليد 1972)، اعتُقل منذ أكثر من تسع سنوات. اسمُه اليوم يدوّي في نداءات العائلة، كما لو أن الحروف نفسها تبحث عن جسده في أزقة دمشق واليرموك.

​في غياب هؤلاء، تصبح فردية الفلسطيني وخصوصيته مجرد حكاية معلقة بين الغياب والحضور.

​الغياب الفردي ليس فقط اختفاء الجسد، بل تحوُّل الاسم إلى كائن حيّ بحد ذاته، يمشي معنا في الأزقة المدمرة، في الصور القديمة، في التواريخ التي لم يُكتب فيها شيء بعد. كل غياب فردي هو تجربة فلسفية، سؤال عن الحياة والعدم في آن واحد، درس في الصبر، درس في الصمت، درس في قدرة الإنسان على التعايش مع عدم الوجود.

موت البيت بأكمله

​إذا كان الغياب الفردي وجعًا داخليًا، فالغياب العائلي هو انفجارٌ داخلي يُعيد رسم الخرائط كلها. حين تختفي عائلة كاملة، يتحول العالم إلى لوحة مُشوشة لا تكتمل إلا بخطوط ذكريات مفقودة.

​عائلة داوود من الحجر الأسود، التي فقدت أربعة من أبنائها في 2013، لم تترك وراءها سوى بابٍ مخلوع، وحائطٍ ملوّن برسوم الأطفال، وركام أشياء كانت يومًا ما رموز حياة.

الأسماء:

  • ​نور أحمد داوود (1987)
  • ​داوود أحمد داوود (1986)
  • ​محمود محمد خير داوود (1996)
  • ​علي محمد خير داوود (1998)

​كل اسم هنا هو قصة صغيرة، وحكاية متشابكة، وقطعة من الحياة التي سُرقت. هنا الغياب لا يُقاس بعدد الأشخاص فقط، بل بمدى القدرة على إحاطة الصمت بالوجود، وتحويل الفراغ إلى ذاكرة. البيت الذي اختفى مع العائلة أصبح رمزًا لكل بيت فلسطيني في سوريا، كل بيت يحمل في أركانه صدى الغائبين، كل حجرة تروي قصة عن حنين لم يعد يُسمع إلا في الصمت.

موت الحلم مع المهنة

​كان الأطباء والمعلمون والفنانون الفلسطينيون في سوريا حراسًا للحياة والفكر والجمال، لكن الغياب اختطفهم، تاركًا وراءه فراغًا كبيرًا في كل مكان عرفوه.

​علاء الدين يوسف، الطبيب الذي كان يضمد جراح الأطفال في دمشق، أصبح اسمه علامة على الألم المفقود، علامة على قدرة العالم على محو الحياة وإعادة ترتيبها حسب قوانينه القاسية.

​هائل حميد، الجرّاح الذي عرفه المخيم مثلما يُعرف المنقذ، أصبح اليوم مجرد اسم يُذكر في ندوات التوثيق. اسمٌ يرفض الصمت، ولكنه محاصر بالحقيقة المُرّة. الجسد غائب، والاسم حاضر، والحكاية تتكرر بلا نهاية.

​نزار جواد كسّاب، الأستاذ الجامعي، غاب تاركًا كرسي التدريس فارغًا، ولكنه لم يترك أثرًا على الحائط فقط، بل على العقول التي كانت تتلقّف المعرفة منه، على الأفكار التي بقيت معلقة في الهواء.

​محمد عمر أبو النجع، الطبيب الآخر، صار مثالًا على الحلم الذي انتهى قبل أن يبدأ، على الإنسان الذي يختفي من أجل أن يستمر العالم في أن يكون نفسه. كل اسم هنا درس في العبث: كيف يمكن أن يُمحى من كان يُعيد الحياة لغيره؟

الوجه الأنثوي للغياب

​في غياب النساء، يصبح الصمت أعمق، وتتحول المأساة إلى صدى طويل في الأزقة.

​سلمى عبد الرزاق، طالبة جامعية، اختُطفت في 2012 قرب مخيم اليرموك. اسمها وحده بقي يتردد بين الزملاء كقصيدة لم تُكمل بيتها الأخير. كانت تحلم أن تصبح أستاذة، وإذا بالغياب يكتب سيرتها بدلًا عنها، يكتب حياةً لم تُعاش، يكتب حضورًا لم يحدث.

​الغياب النسوي هنا ليس مجرد اختفاء جسد، بل اختفاء قوة، اختفاء حلم، اختفاء القدرة على الاستمرار في صياغة العالم من حولها. كل امرأة غائبة تحمل في اسمها نداءً صامتًا، حكاية عن عالم مفقود، عن قدرة على الصمود لم يعد لها من أثر.

سرقة الطفولة من أحضان المخيم

​الطفولة عند الفلسطيني السوري ليست فترة من الحياة، بل حالة من الوجود المُهدَّد منذ الولادة. الغياب هنا أقسى؛ لأنه يسرق المستقبل من أصحابه قبل أن يعرفوا معنى الوجود.

​حادثة "علي الوحش" عام 2013 خلّفت أكثر من 1200 مفقود، بينهم أطفال ورُضَّع. من بينهم ميمونة الشام جبر، رضيعة عمرها عام واحد، كانت تحبو على أرض المخيم قبل أن تبتلعها زنازين الغياب، ومحمد كجيل، رجل مُسنّ، اختفى مع أحفاده وأولاده، وكأن ثلاثة أجيال صارت غبارًا على الطريق.

​الأطفال هنا ليسوا أرقامًا في قوائم، بل شواهد على قدرة الغياب على اقتلاع الحياة من جذورها. كل ضحكة طفل مفقود، كل لعبة تُركت بلا يد صغيرة تمسكها، كل جدار نُقش عليه اسم صغير اختفى؛ كل ذلك يتحول إلى لوحة يقرأها الناجون بفزع وحنين، لوحة تُحاكي صمت العالم أمام هذه المأساة.

​الطفولة الفلسطينية في سوريا صار لها بُعد فلسفي: كيف يكون للغياب يد طويلة تمتد لتقتل ما لم يولد بعد؟ لتكتب اسمًا على الهواء بلا جسد؟ لتبقى الذكرى كائنًا حيًّا في قلب كل من عرفهم؟

حين يصبح المخيم مقبرة مفتوحة

​اليرموك لم يعد مجرد مخيم، بل أصبح مرآة العدم. عشرات الآلاف نزحوا، والآلاف قُتلوا، والآلاف أُدخلوا إلى السجون.

​الغياب هنا ليس فرديًا، بل جماعيًا، كأن المخيم نفسه اختفى من خارطة العالم ليترك وراءه صدى أقدام غائبة على أرض خاوية.

​كل شارع، كل زاوية، كل حجر يحمل صدى الغائبين. البيوت المهدمة، المدارس المُغلقة، المحلات المسدودة، كلها تتحول إلى توثيق صامت للحياة التي لم تعد موجودة. في هذه الخرائط الممزقة، يتعلم الفلسطيني السوري أن يكون شاهدًا على نفسه، على الآخرين، وعلى غياب الآخر الذي يعكس وجوده في الوقت نفسه.

​المخيم مرآة مكسورة، كل شظية تعكس وجهًا غائبًا.

​وهكذا يصبح السرد الجماعي وسيلة لإنقاذ الذاكرة من الانقراض، طريقة للحفاظ على الحضور داخل الغياب، وإثبات أن التاريخ لن ينسى أولئك الذين اختفوا بلا أثر.

الأعداد بوصفها نصوصًا دامية

​الأرقام ليست مجرد أرقام، بل نصوص دامية، قصائد موت جماعي تُكتب على جدران الذاكرة.

  • ​أكثر من 7000 فلسطيني مفقود في سجون الأسد منذ 2011 حتى 2024.
  • ​أكثر من 7000 اسمًا جمعها ذوو المفقودين في قوائم.
  • ​أكثر من 5000 ضحية فلسطينية سورية منذ بداية الحرب.

​كل رقم ليس مجرد إحصاء، بل باب على بيت، ودمعة على حائط، وصرخة لم تُسمع. الأسماء تتكدس في دفاتر العائلات، في قوائم الحقوقيين، في نصوص التوثيق الرقمي؛ لتصبح شهادات صامتة على قدرة الغياب على إعادة تعريف الزمن، وخلق مساحة جديدة للوجود داخل عدم الوجود.

الذاكرة كحارس ضد النسيان

​"إذا لم أذكره سيموت مرتين". بهذه العبارة يختصر الناجون مهمتهم: أن يحموا الغائبين من المَحو عبر الذاكرة. السرد هنا ليس ترفًا أدبيًا، بل احتجاج على العالم الذي يسمح للمأساة أن تتحوّل إلى صمت، على النظام الذي يختطف البشر دون سبب، على مجتمع غارق في المراوحة بين النسيان واللامبالاة.

​كل قصة تُروى، كل اسم يُذكر، كل صورة تُنشر؛ هي محاولة للانتقال من العدم إلى الحضور. السرد الجماعي عند الفلسطينيين السوريين هو مقاومة، كتابة على أنقاض النسيان، هو وسيلة لتحويل الغياب من مأساة شخصية إلى تجربة وجودية مشتركة تُدرّس الصبر، وتعلّم قيمة التذكر، وتثبت أن الإنسان حاضر في قلب العالم حتى إذا اختفى جسده.

الغياب كحقيقة وجودية

​الغياب عند الفلسطيني السوري ليس مجرد فقدان جسد، بل تجربة فلسفية مع الوقت والمكان والحياة نفسها. هو اختبار للقدرة على البقاء بعد أن يُحرم الإنسان من كل شيء: من بيته، من أهله، من عمله، من طفولته.

​"نحن فائض البشر الذين يُساوِم عليهم الجميع".

​في حضرة الغياب، يكتشف الفلسطيني السوري أن حياته ليست ملكه وحده، وأن حضوره هو نتيجة مفاوضة مستمرة مع الصمت والعدم. الغياب يطرح السؤال الوجودي: كيف يمكن للإنسان أن يواصل العيش حين يُمحى من كل خرائط الدولة؟ وكيف يمكن للذاكرة أن تبقى حيّة في قلب هذا الصمت الممتد؟

حين تتحول الذاكرة إلى سلاح

​كل ذكرى هي احتجاج. صورة طفل على جدار، اسم مكتوب بالطبشور، نداء عائلة على وسائل الإعلام، أغنية تُذاع في بيت بلا سقف؛ كلها تحوّل الغياب إلى فعل مقاومة.

​الذكرى ليست حنينًا للماضي، بل رفضًا لمحو الحاضر. هي إعلان مستمر: "الغائبون حاضرون ما دمنا نذكرهم". كل ذكرى هنا تجسد حضور الغائبين في وجوهنا، في كلامنا، في صمتنا، وفي دموعنا، وتجعل من الغياب فعلًا فنيًا وفلسفيًا في الوقت نفسه.

الغياب كمرآة لخراب العالم

​في حضرة الغياب، الفلسطيني السوري ليس مجرد ضحية، بل مرآة تعكس خراب العالم. غيابه يفضح حضور الآخرين الزائف. صمته يدوّي أكثر من كل بيانات السياسة، كل الأرقام، كل التقارير.

​"نحن الغائبون الذين يعرّون حضوركم الكاذب".

​الغياب هنا درس كوني: كيف يواصل الإنسان العيش حتى حين يُمحى من دفاتر الدولة؟ كيف يُصِرّ على الحضور وهو لا يملك سوى الغياب؟

​في النهاية، الفلسطيني السوري ليس شاهدًا فقط، بل في غيابه شاهِدٌ وشهيدٌ وذاكرة. كتابة لا تُمحى، وغياب يُعيد صياغة معنى الحضور في هذا العالم.

الوسوم

رابط مختصر : http://www.actionpal.org.uk/ar/post/22192

مجموعة العمل - نضال الخليل

​الغياب ليس مجرد فراغ يُضاف إلى الفراغ. إنه يشبه عاصفة هادئة تمرّ بين الأرواح، تُعيد ترتيب الأشياء، وتُعيد تعريف الهوية. الفلسطيني السوري يعرف الغياب كحقيقة يومية قبل أن يعرف الوطن، كأنه نسخة ثانية من ذاته، نسخة أعمق وأكثر قسوة. الاسم نفسه يصبح مرآة للغياب، ويتحول إلى حجر صغير يُرمى في بحر من الذاكرة ليبقى حاضرًا على الرغم من كل شيء.

أسماؤنا لا تموت، لكنها لا تُنادى

​هكذا يكتب الفلسطيني السوري مصيره: في المخيم، وفي الزوايا المظلمة للمدينة، وفي الأزقة الضيقة التي تتحوّل إلى سجلات غير مرئية للغائبين. في هذا الغياب، كل كلمة تحمل وزنًا وجوديًا، وكل تذكّر لصوتٍ مفقود هو محاولة للحياة نفسها.

حين يختفي الجسد ويبقى الاسم

​الغياب الفردي هو السقوط في فراغ لا تُعرف له نهاية. سقوطٌ لا يُسمع منه إلا صدى الأسماء المفقودة. هناك ماجد محمد شمر، اعتُقل عام 2013 في مشروع دمّر. جسده اختفى كما لو أن الأرض ابتلعته، وترك الاسم يتردد بين الأصدقاء كتعويذة، كصوتٍ من الماضي يرفض الانصياع للحاضر.

​وسيم محمود بدران، الذي اختفى في درعا عام 2014، صار اسمه على جدران المخيم أشبه برسالة عاجلة من الزمان نفسه: "هنا كنت وهنا سأبقى، حتى لو لم تعد العيون تراني".

​عبد العزيز محمود عباس (مواليد 1972)، اعتُقل منذ أكثر من تسع سنوات. اسمُه اليوم يدوّي في نداءات العائلة، كما لو أن الحروف نفسها تبحث عن جسده في أزقة دمشق واليرموك.

​في غياب هؤلاء، تصبح فردية الفلسطيني وخصوصيته مجرد حكاية معلقة بين الغياب والحضور.

​الغياب الفردي ليس فقط اختفاء الجسد، بل تحوُّل الاسم إلى كائن حيّ بحد ذاته، يمشي معنا في الأزقة المدمرة، في الصور القديمة، في التواريخ التي لم يُكتب فيها شيء بعد. كل غياب فردي هو تجربة فلسفية، سؤال عن الحياة والعدم في آن واحد، درس في الصبر، درس في الصمت، درس في قدرة الإنسان على التعايش مع عدم الوجود.

موت البيت بأكمله

​إذا كان الغياب الفردي وجعًا داخليًا، فالغياب العائلي هو انفجارٌ داخلي يُعيد رسم الخرائط كلها. حين تختفي عائلة كاملة، يتحول العالم إلى لوحة مُشوشة لا تكتمل إلا بخطوط ذكريات مفقودة.

​عائلة داوود من الحجر الأسود، التي فقدت أربعة من أبنائها في 2013، لم تترك وراءها سوى بابٍ مخلوع، وحائطٍ ملوّن برسوم الأطفال، وركام أشياء كانت يومًا ما رموز حياة.

الأسماء:

  • ​نور أحمد داوود (1987)
  • ​داوود أحمد داوود (1986)
  • ​محمود محمد خير داوود (1996)
  • ​علي محمد خير داوود (1998)

​كل اسم هنا هو قصة صغيرة، وحكاية متشابكة، وقطعة من الحياة التي سُرقت. هنا الغياب لا يُقاس بعدد الأشخاص فقط، بل بمدى القدرة على إحاطة الصمت بالوجود، وتحويل الفراغ إلى ذاكرة. البيت الذي اختفى مع العائلة أصبح رمزًا لكل بيت فلسطيني في سوريا، كل بيت يحمل في أركانه صدى الغائبين، كل حجرة تروي قصة عن حنين لم يعد يُسمع إلا في الصمت.

موت الحلم مع المهنة

​كان الأطباء والمعلمون والفنانون الفلسطينيون في سوريا حراسًا للحياة والفكر والجمال، لكن الغياب اختطفهم، تاركًا وراءه فراغًا كبيرًا في كل مكان عرفوه.

​علاء الدين يوسف، الطبيب الذي كان يضمد جراح الأطفال في دمشق، أصبح اسمه علامة على الألم المفقود، علامة على قدرة العالم على محو الحياة وإعادة ترتيبها حسب قوانينه القاسية.

​هائل حميد، الجرّاح الذي عرفه المخيم مثلما يُعرف المنقذ، أصبح اليوم مجرد اسم يُذكر في ندوات التوثيق. اسمٌ يرفض الصمت، ولكنه محاصر بالحقيقة المُرّة. الجسد غائب، والاسم حاضر، والحكاية تتكرر بلا نهاية.

​نزار جواد كسّاب، الأستاذ الجامعي، غاب تاركًا كرسي التدريس فارغًا، ولكنه لم يترك أثرًا على الحائط فقط، بل على العقول التي كانت تتلقّف المعرفة منه، على الأفكار التي بقيت معلقة في الهواء.

​محمد عمر أبو النجع، الطبيب الآخر، صار مثالًا على الحلم الذي انتهى قبل أن يبدأ، على الإنسان الذي يختفي من أجل أن يستمر العالم في أن يكون نفسه. كل اسم هنا درس في العبث: كيف يمكن أن يُمحى من كان يُعيد الحياة لغيره؟

الوجه الأنثوي للغياب

​في غياب النساء، يصبح الصمت أعمق، وتتحول المأساة إلى صدى طويل في الأزقة.

​سلمى عبد الرزاق، طالبة جامعية، اختُطفت في 2012 قرب مخيم اليرموك. اسمها وحده بقي يتردد بين الزملاء كقصيدة لم تُكمل بيتها الأخير. كانت تحلم أن تصبح أستاذة، وإذا بالغياب يكتب سيرتها بدلًا عنها، يكتب حياةً لم تُعاش، يكتب حضورًا لم يحدث.

​الغياب النسوي هنا ليس مجرد اختفاء جسد، بل اختفاء قوة، اختفاء حلم، اختفاء القدرة على الاستمرار في صياغة العالم من حولها. كل امرأة غائبة تحمل في اسمها نداءً صامتًا، حكاية عن عالم مفقود، عن قدرة على الصمود لم يعد لها من أثر.

سرقة الطفولة من أحضان المخيم

​الطفولة عند الفلسطيني السوري ليست فترة من الحياة، بل حالة من الوجود المُهدَّد منذ الولادة. الغياب هنا أقسى؛ لأنه يسرق المستقبل من أصحابه قبل أن يعرفوا معنى الوجود.

​حادثة "علي الوحش" عام 2013 خلّفت أكثر من 1200 مفقود، بينهم أطفال ورُضَّع. من بينهم ميمونة الشام جبر، رضيعة عمرها عام واحد، كانت تحبو على أرض المخيم قبل أن تبتلعها زنازين الغياب، ومحمد كجيل، رجل مُسنّ، اختفى مع أحفاده وأولاده، وكأن ثلاثة أجيال صارت غبارًا على الطريق.

​الأطفال هنا ليسوا أرقامًا في قوائم، بل شواهد على قدرة الغياب على اقتلاع الحياة من جذورها. كل ضحكة طفل مفقود، كل لعبة تُركت بلا يد صغيرة تمسكها، كل جدار نُقش عليه اسم صغير اختفى؛ كل ذلك يتحول إلى لوحة يقرأها الناجون بفزع وحنين، لوحة تُحاكي صمت العالم أمام هذه المأساة.

​الطفولة الفلسطينية في سوريا صار لها بُعد فلسفي: كيف يكون للغياب يد طويلة تمتد لتقتل ما لم يولد بعد؟ لتكتب اسمًا على الهواء بلا جسد؟ لتبقى الذكرى كائنًا حيًّا في قلب كل من عرفهم؟

حين يصبح المخيم مقبرة مفتوحة

​اليرموك لم يعد مجرد مخيم، بل أصبح مرآة العدم. عشرات الآلاف نزحوا، والآلاف قُتلوا، والآلاف أُدخلوا إلى السجون.

​الغياب هنا ليس فرديًا، بل جماعيًا، كأن المخيم نفسه اختفى من خارطة العالم ليترك وراءه صدى أقدام غائبة على أرض خاوية.

​كل شارع، كل زاوية، كل حجر يحمل صدى الغائبين. البيوت المهدمة، المدارس المُغلقة، المحلات المسدودة، كلها تتحول إلى توثيق صامت للحياة التي لم تعد موجودة. في هذه الخرائط الممزقة، يتعلم الفلسطيني السوري أن يكون شاهدًا على نفسه، على الآخرين، وعلى غياب الآخر الذي يعكس وجوده في الوقت نفسه.

​المخيم مرآة مكسورة، كل شظية تعكس وجهًا غائبًا.

​وهكذا يصبح السرد الجماعي وسيلة لإنقاذ الذاكرة من الانقراض، طريقة للحفاظ على الحضور داخل الغياب، وإثبات أن التاريخ لن ينسى أولئك الذين اختفوا بلا أثر.

الأعداد بوصفها نصوصًا دامية

​الأرقام ليست مجرد أرقام، بل نصوص دامية، قصائد موت جماعي تُكتب على جدران الذاكرة.

  • ​أكثر من 7000 فلسطيني مفقود في سجون الأسد منذ 2011 حتى 2024.
  • ​أكثر من 7000 اسمًا جمعها ذوو المفقودين في قوائم.
  • ​أكثر من 5000 ضحية فلسطينية سورية منذ بداية الحرب.

​كل رقم ليس مجرد إحصاء، بل باب على بيت، ودمعة على حائط، وصرخة لم تُسمع. الأسماء تتكدس في دفاتر العائلات، في قوائم الحقوقيين، في نصوص التوثيق الرقمي؛ لتصبح شهادات صامتة على قدرة الغياب على إعادة تعريف الزمن، وخلق مساحة جديدة للوجود داخل عدم الوجود.

الذاكرة كحارس ضد النسيان

​"إذا لم أذكره سيموت مرتين". بهذه العبارة يختصر الناجون مهمتهم: أن يحموا الغائبين من المَحو عبر الذاكرة. السرد هنا ليس ترفًا أدبيًا، بل احتجاج على العالم الذي يسمح للمأساة أن تتحوّل إلى صمت، على النظام الذي يختطف البشر دون سبب، على مجتمع غارق في المراوحة بين النسيان واللامبالاة.

​كل قصة تُروى، كل اسم يُذكر، كل صورة تُنشر؛ هي محاولة للانتقال من العدم إلى الحضور. السرد الجماعي عند الفلسطينيين السوريين هو مقاومة، كتابة على أنقاض النسيان، هو وسيلة لتحويل الغياب من مأساة شخصية إلى تجربة وجودية مشتركة تُدرّس الصبر، وتعلّم قيمة التذكر، وتثبت أن الإنسان حاضر في قلب العالم حتى إذا اختفى جسده.

الغياب كحقيقة وجودية

​الغياب عند الفلسطيني السوري ليس مجرد فقدان جسد، بل تجربة فلسفية مع الوقت والمكان والحياة نفسها. هو اختبار للقدرة على البقاء بعد أن يُحرم الإنسان من كل شيء: من بيته، من أهله، من عمله، من طفولته.

​"نحن فائض البشر الذين يُساوِم عليهم الجميع".

​في حضرة الغياب، يكتشف الفلسطيني السوري أن حياته ليست ملكه وحده، وأن حضوره هو نتيجة مفاوضة مستمرة مع الصمت والعدم. الغياب يطرح السؤال الوجودي: كيف يمكن للإنسان أن يواصل العيش حين يُمحى من كل خرائط الدولة؟ وكيف يمكن للذاكرة أن تبقى حيّة في قلب هذا الصمت الممتد؟

حين تتحول الذاكرة إلى سلاح

​كل ذكرى هي احتجاج. صورة طفل على جدار، اسم مكتوب بالطبشور، نداء عائلة على وسائل الإعلام، أغنية تُذاع في بيت بلا سقف؛ كلها تحوّل الغياب إلى فعل مقاومة.

​الذكرى ليست حنينًا للماضي، بل رفضًا لمحو الحاضر. هي إعلان مستمر: "الغائبون حاضرون ما دمنا نذكرهم". كل ذكرى هنا تجسد حضور الغائبين في وجوهنا، في كلامنا، في صمتنا، وفي دموعنا، وتجعل من الغياب فعلًا فنيًا وفلسفيًا في الوقت نفسه.

الغياب كمرآة لخراب العالم

​في حضرة الغياب، الفلسطيني السوري ليس مجرد ضحية، بل مرآة تعكس خراب العالم. غيابه يفضح حضور الآخرين الزائف. صمته يدوّي أكثر من كل بيانات السياسة، كل الأرقام، كل التقارير.

​"نحن الغائبون الذين يعرّون حضوركم الكاذب".

​الغياب هنا درس كوني: كيف يواصل الإنسان العيش حتى حين يُمحى من دفاتر الدولة؟ كيف يُصِرّ على الحضور وهو لا يملك سوى الغياب؟

​في النهاية، الفلسطيني السوري ليس شاهدًا فقط، بل في غيابه شاهِدٌ وشهيدٌ وذاكرة. كتابة لا تُمحى، وغياب يُعيد صياغة معنى الحضور في هذا العالم.

الوسوم

رابط مختصر : http://www.actionpal.org.uk/ar/post/22192