map
RSS instagram youtube twitter facebook Google Paly App stores

عدد الضحايا

حتى اليوم

4294

ذاكرة الرحيل

تاريخ النشر : 16-11-2025
ذاكرة الرحيل

فايز أبو عيد

في تاريخٍ محفور في القلب، يوم ٩/٢/٢٠١٢، غادرت مخيمي، وخرجت من سورية، كنا هناك نعيش بين جدران تحاكي الأمل وسط ركام الألم.

في ذلك المخيم الصغير، تعلمنا أن الطائرات ليست فقط للرحلات وإنما للعبة، حتى عرفنا كيف تصير رعباً: فرقنا بين صوت "الميغ" و"الهيليكوبتر"، وبين هاون هو دق الثوم والآخر لحرق القلب.

الموت كان زائرًا عشوائيًا، لا يحترم لا زماناً ولا مكاناً، وزرع عبئاً ثقيلاً على قلوبنا التي لم تتوقّف عن النبض رغم كل شيء.

كانت أمي تصرّ على أن أغادر إلى لبنان بعدما ارتحل أغلب أصدقائي شهداء… حضّرتُ حقيبتي مع بعض الرفاق، وأمي بجبروتها ولهفتها تجهّز لنا ربطة خبز تبقى معها في صباح الوداع.

الرحيل كان مليئاً بمعانٍ لا تُروى حيث تعطّلت السيارة الصفراء عدة مرات، وكأنها ترفض أن تترك ذلك المكان الذي علّقنا فيه حبوب الذكريات.

في مخيم اليرموك، وجدت بين الناس المشردين صورة نكبة حية، أناس يتشبثون بما تبقى من أمل ويركضون من وابل رصاص لا يتوقف، استثنائية كثيرة تشبه قصص والدي.

في هذه اللحظات، حين استقبلتني سيارة أجرة بعد نحو آخر الشارع، جلست مرتاحاً ومرهقاً، لم أعد أهتم بالوصول، فقد غادرت عالمي القديم، أرسلت بعض الرسائل لأحبتي وألقيت نظرة أخيرة على المكان، ربما كانت الأخيرة، مثقلة بذكريات فارقت أي فرصة للعودة.

 تركت شقيقي الذي لم نعرف عنه منذ ذلك اليوم خبراً، ووالدي الشهيد الذي لم تتسنَ لي فرصة تقبيل وجهه الطاهر، أخذوا منا فقط هويته، وغاب عنّا محل دفنه.

ومع كل هذا الحزن، أتذكر يوسف، ذلك الفتى الذي لم يكن كباقي الأطفال، رغم صغر سنه كان رجلاً يحمل مشقة الحياة، يساعد والده بكل بساطة نادرة، يملك تقدير الحارة وعتبهم.

 في زمن الحرب، كانت أصوات طائرات الموت تملأ السماء بدل هديل الحمام، وفي يوم غائم سقطت قذيفة هاون في الحارة لتغيّر حياة الجميع، وتخذل الطفل يوسف، الذي كان يمزح بابتكار "حاجز" من أجل حماية الحمام، ولكنه لم ينحرف عن طريقه رغم الألم.

حملته بين يديّ ذلك اليوم كأنه ملاك، كان الدم يملأ جسده، ولم أنسَ رائحة عطري الخفيّة التي خرجت منه، رغم الجراح القاتلة، لم أخبر أحدًا حينها أنني شعرت بموته، وأخفيت ذلك الابتسامة الأخيرة التي رسمها يوسف في وجه الموت.

وشهدتُ على وداعه الأخير وسط أصدقائه ورفاقه، بالبكاء والصلاة على تراب حارتنا، حيث لا ضجيج إلا قطرات المطر التي باركت رحيله، بينما حمامات يوسف تستمر في الطيران في السماء، بلا خوف من صفير القذائف.

قصة الرحيل هذه، حكاية وجع وغربة، تحمل في طياتها مشاهد الألم والخسارة الذي ألم ويلم بشعبنا الفلسطيني منذ النكبة وحتى اللحظة الراهنة، لكنها أيضاً ولكي لا يكون المشهد سوداوي قاتم تحمل بصيص أمل بصمود الأرواح التي لا تنكسر أمام أعنف المحن والمأساة التي تعصف بهذا الشعب الذي لا يرضى بديلا عن وطنه.

الوسوم

رابط مختصر : http://www.actionpal.org.uk/ar/post/22292

فايز أبو عيد

في تاريخٍ محفور في القلب، يوم ٩/٢/٢٠١٢، غادرت مخيمي، وخرجت من سورية، كنا هناك نعيش بين جدران تحاكي الأمل وسط ركام الألم.

في ذلك المخيم الصغير، تعلمنا أن الطائرات ليست فقط للرحلات وإنما للعبة، حتى عرفنا كيف تصير رعباً: فرقنا بين صوت "الميغ" و"الهيليكوبتر"، وبين هاون هو دق الثوم والآخر لحرق القلب.

الموت كان زائرًا عشوائيًا، لا يحترم لا زماناً ولا مكاناً، وزرع عبئاً ثقيلاً على قلوبنا التي لم تتوقّف عن النبض رغم كل شيء.

كانت أمي تصرّ على أن أغادر إلى لبنان بعدما ارتحل أغلب أصدقائي شهداء… حضّرتُ حقيبتي مع بعض الرفاق، وأمي بجبروتها ولهفتها تجهّز لنا ربطة خبز تبقى معها في صباح الوداع.

الرحيل كان مليئاً بمعانٍ لا تُروى حيث تعطّلت السيارة الصفراء عدة مرات، وكأنها ترفض أن تترك ذلك المكان الذي علّقنا فيه حبوب الذكريات.

في مخيم اليرموك، وجدت بين الناس المشردين صورة نكبة حية، أناس يتشبثون بما تبقى من أمل ويركضون من وابل رصاص لا يتوقف، استثنائية كثيرة تشبه قصص والدي.

في هذه اللحظات، حين استقبلتني سيارة أجرة بعد نحو آخر الشارع، جلست مرتاحاً ومرهقاً، لم أعد أهتم بالوصول، فقد غادرت عالمي القديم، أرسلت بعض الرسائل لأحبتي وألقيت نظرة أخيرة على المكان، ربما كانت الأخيرة، مثقلة بذكريات فارقت أي فرصة للعودة.

 تركت شقيقي الذي لم نعرف عنه منذ ذلك اليوم خبراً، ووالدي الشهيد الذي لم تتسنَ لي فرصة تقبيل وجهه الطاهر، أخذوا منا فقط هويته، وغاب عنّا محل دفنه.

ومع كل هذا الحزن، أتذكر يوسف، ذلك الفتى الذي لم يكن كباقي الأطفال، رغم صغر سنه كان رجلاً يحمل مشقة الحياة، يساعد والده بكل بساطة نادرة، يملك تقدير الحارة وعتبهم.

 في زمن الحرب، كانت أصوات طائرات الموت تملأ السماء بدل هديل الحمام، وفي يوم غائم سقطت قذيفة هاون في الحارة لتغيّر حياة الجميع، وتخذل الطفل يوسف، الذي كان يمزح بابتكار "حاجز" من أجل حماية الحمام، ولكنه لم ينحرف عن طريقه رغم الألم.

حملته بين يديّ ذلك اليوم كأنه ملاك، كان الدم يملأ جسده، ولم أنسَ رائحة عطري الخفيّة التي خرجت منه، رغم الجراح القاتلة، لم أخبر أحدًا حينها أنني شعرت بموته، وأخفيت ذلك الابتسامة الأخيرة التي رسمها يوسف في وجه الموت.

وشهدتُ على وداعه الأخير وسط أصدقائه ورفاقه، بالبكاء والصلاة على تراب حارتنا، حيث لا ضجيج إلا قطرات المطر التي باركت رحيله، بينما حمامات يوسف تستمر في الطيران في السماء، بلا خوف من صفير القذائف.

قصة الرحيل هذه، حكاية وجع وغربة، تحمل في طياتها مشاهد الألم والخسارة الذي ألم ويلم بشعبنا الفلسطيني منذ النكبة وحتى اللحظة الراهنة، لكنها أيضاً ولكي لا يكون المشهد سوداوي قاتم تحمل بصيص أمل بصمود الأرواح التي لا تنكسر أمام أعنف المحن والمأساة التي تعصف بهذا الشعب الذي لا يرضى بديلا عن وطنه.

الوسوم

رابط مختصر : http://www.actionpal.org.uk/ar/post/22292