فاديا محمد عبد الله – مجموعة العمل
في مشهد يعكس قوة الإرادة وسط المعاناة، برزت المرأة الفلسطينية كرمز للصبر والصمود والتحدي. وتتجلّى هذه الصورة في سيّدات أرامل يسعين لإعالة أطفالهن الأيتام، أو الثكالى اللواتي فقدن الأمل في رؤية أبنائهن الذين غيبهم النظام البائد قسراً في ظلمات القهر في سجونه تحت الأرض، فلا من يسمع صراخهم ولا من يرى فنون تعذيبهم. ولقد تحمّلت المرأة الفلسطينية من الأعباء والهموم ما تنوء الجبال الراسخة عن حمله، فأثبتت أنها عظيمةً في صبرها وزاخرة في إيمانها وراسخة في عزيمتها.
تحدّيات سياسيّة وأمنيّة من وشاة ومفترين
منذ الأيام الأولى لاندلاع الثورة السورية، وتحت ضغط الممارسات العشوائيّة والقمعيّة للنظام البائد، وما عانته غالبية المخيمات الفلسطينية من التدمير الممنهج كمخيم اليرموك وخان الشيخ وحندرات فأحدث تحوّلات كبيرة طرأت على حياة المرأة في سورية بشكل عام والمرأة الفلسطينية بشكل خاص، حيث اضطرت غالبية السيدات الفلسطينيات للدخول إلى سوق العمل تعويضاً عن غياب رب الأسرة أو معيلها المخطوف أو المعتقل أو المقطوعة أخباره بسبب الاعتقالات التعسفية التي كانت ترتكب دون مبرر.
هذا التغيير في حياة المرأة الفلسطينية ومهامها فرض عليها مسؤوليات تفوق قدرتها ووظيفتها الطبيعية،
بعد أن كانت متفرّغة لشؤون أسرتها ومكرّسة وقتها لتربية أطفالها، فاحتفظت بدورها ووظيفتها التقليدية كربّة منزل، لعقود مديدة.
وعرض تقرير للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة عن عدد كبير من النساء الفلسطينيات في سورية وقعن ضحيّة العزلة والمصاعب النفسية والخوف المستمرّ، ليخضن نضالاً مستمراً من أجل البقاء في ظل واقع دمويّ وقاتل.
ظلم الزواج: إما غير متوازن أو مبكّر
هذا الواقع الجديد في سورية غيّر معايير العمل النسائي الذي كان في الماضي مقصوراً على الحاجة الاقتصادية الحادة فقط. ففي زمن الحرب والتهجير، أصبحت المرأة الفلسطينية مسؤولة عن إعالة أسرتها وتلبية المتطلبات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، بدلاً من دورها الذي كان يقتصر غالباً على رعاية الأطفال والمنزل. ومع هدم المنازل أو فرض التهجير القسري منها وفقد المعيلين من الآباء أو الأزواج أو الأبناء، تحوّل هذا العبء مهمة صعبة أثقلت كاهل المرأة، بالإضافة إلى اضطرار الفتيات في سن الزواج للقبول بزواج غير متوازن وبدون مراعاة الظروف الأخلاقية أو المادية للزوج المحتمل، فكان الهدف من الزواج في ظل تأثير الظروف المأساوية المنوه عنها أعلاه فقط تأمين السترة والبقاء بحدوده الدنيا إضافة إلى زيادة حالات زواج القاصرات دون سن الثامنة عشرة من أعمارهن.
قتل وتهجير وتغييب قسري
المأساة لم تتوقف عند التحديات الأسرية؛ التي من مظاهرها تدمير المنازل والاعتقالات العشوائية والفقر المدقع ما دفع دفع الكثير من الرجال للهجرة أو عرّضهم للقتل المباشر. هذه الحال أدّت إلى تغييرات ديموغرافية كبيرة فباتت نسبة النساء في المخيمات تفوق نسبة الرجال بشكل ملحوظ. وهذا خلق تغيرات اجتماعية واضحة، بما لها من ضغوط أخلاقية على العادات والتقاليد للأسرة الفلسطينية، منها انخفاض معدّلات الزواج وزيادة حالات الطلاق والعنوسة.
المرأة الفلسطينية في مواجهة الأخطار
لم تكن المخيمات الفلسطينية معتادة تاريخياً على رؤية نساء يعملن بنسب كبيرة كما هو الحال اليوم. فقد كانت قلة قليلة من النساء الفلسطينيات تلجأ للعمل نتيجة ظروف الحياة الصعبة، إلا أن سنوات الحرب أدت إلى زيادة ملحوظة في نسبة النساء العاملات. فقد دفعهن ذلك إلى السعي لتأمين حياة كريمة لأسرهن، ونجحن إلى حد كبير في تحقيق أهدافهن. لكن جهود الأم الفلسطينية لم تذهب سدًى فأطفال الماضي وأيتامه الذين فقدوا معيلهم أصبحوا اليوم طلاباً أو متخرّجين جامعيين.
السيدة أمل: لديّ ثلاثة متخصّصون
السيدة أمل، على سبيل المثال، تعمل معلمة في إحدى مدارس الأونروا، وقد تم اعتقال زوجها تاركاً لها ثلاثة أولاد وبنت. اليوم، تحول هؤلاء الأبناء إلى معلم، مهندس، طبيب أسنان، وأصغرهم خريج في تخصص التربية وعلم النفس.
السيدة رزان: نضال الإعالة بعد فقدان أثر الزوج
بقلب يغمره الحزن وأعين مليئة بالدموع، روت السيدة رزان قصتها لـ"مجموعة العمل" قائلة: قبل عام 2011، كانت حياتنا تتّسم بالبساطة والاستقرار النسبيّ بفضل زوجٍ طيب القلب وحنون، أنجبتُ منه ثلاثة أطفال. ولكن هذا الاستقرار والأمان تبدّدا في ذلك اليوم المشؤوم الذي شهد اعتقال زوجي. فقد تم احتجازه أثناء ذهابه لشراء بعض الحاجيّات من المدينة على حاجز باب توما في دمشق. حينذاك كان عمر طفلي الأصغر لا يتجاوز ثلاثة أشهر، بينما كان الأكبر يقارب خمس سنوات.
استغرقتُ أكثر من ثلاثة أشهر أتنقل بين الحواجز والفروع الأمنية في محاولة يائسة لمعرفة مصير زوجي أو الحصول على أي أمل بسيط يطمئن قلبي. كنا نسكن منزلاً بالإيجار، لكن عجزت عن إيفاء المستحقات المالية، مما أجبرني على الانتقال مع أطفالي الثلاثة إلى غرفة في بيت أهل زوجي. وكي أوفر الحد الأدنى من متطلبات الحياة، عملت خادمة في منزل إحدى العائلات الميسورة لقاء أجر زهيد ليسد احتياجاتنا اليومية. كنتّ أصطحب طفلي الأصغر إلى عملي، فيما يبقى الآخران في رعاية والدة زوجي المسنّة.
مرّت السنوات وأنا متمسكة بالأمل في لقاء زوجي، رغم تضاؤل نور الأمل. ومع سقوط النظام وتحرير السجون، والعثور على عدد كبير من المقابر الجماعية، بدأتُ جولة جديدة من البحث المضني بين الناجين من المعتقلات. ولكن كل محاولاتي باءت بالفشل، حتى أدركت مع مرور الوقت أنه قد غاب عن حياتنا إلى الأبد.
السيدة باسمة: وشاية أخفت أبني للأبد
بصورة معبرة مختلفة للألم، تروي السيدة باسمة أحمد قصتها بمرارة قائلة: كان فادي أصغر أبنائي وأقربهم إلى قلبي. كم كنتُ أحلم بذلك اليوم الذي أراه فيه عريساً وأهنأ برؤية أطفاله. لكن القدر كان يخبئ لنا معاناة أخرى، إذ أن يد الغدر والوشاية لم ترحمنا. قدّمت سيدة تفتقر إلى أدنى معاني الإنسانية وشاية ضد فادي تتهمه بالارتباط بالثوار، مما أدّى إلى اعتقاله ظلماً. ومنذ ذلك الحين، حُرمت عيني من رؤيته. لقد كان غيابه وجعاً لا يُحتمل ولا يمكنني نسيانه. وفقدنا أثره كلياً منذ تلك الجريمة النكراء.
خلاصة
ثلاث شهادات رغم إيجازها، لكنها ناضحة بالوجع والألم، تثبت معاناة المرأة الفلسطينية وقدرتها على الصمود والعطاء غير المحدود، رغم الظروف القاسية والواقع المرير الذي فرضته سنوات الظلم والقهر والمعاناة. لكنها إلى ذلك أظهرت أيضاً دورها الأساسي حامية لعائلتها ومعبراً عن الروح الفلسطينية الجديرة بالكرامة والحياة وأرشيفاً ناطقاً للذاكرة الوطنية، حيث نقلت الرواية الفلسطينية بوجعها وذكرياتها وآلامها وآمالها إلى الأجيال الجديدة ليبقى الفلسطينيون، أينما كانوا، متمسكين بحقهم في العودة إلى وطنهم وحقهم بكرامة الإنسان الجدير بحياة لائقة، ولم ينسوا جرائم الماضي مهما حدث، أكان مرتكبها عدو الوجود أم سفاحاً داخل الحدود.
فاديا محمد عبد الله – مجموعة العمل
في مشهد يعكس قوة الإرادة وسط المعاناة، برزت المرأة الفلسطينية كرمز للصبر والصمود والتحدي. وتتجلّى هذه الصورة في سيّدات أرامل يسعين لإعالة أطفالهن الأيتام، أو الثكالى اللواتي فقدن الأمل في رؤية أبنائهن الذين غيبهم النظام البائد قسراً في ظلمات القهر في سجونه تحت الأرض، فلا من يسمع صراخهم ولا من يرى فنون تعذيبهم. ولقد تحمّلت المرأة الفلسطينية من الأعباء والهموم ما تنوء الجبال الراسخة عن حمله، فأثبتت أنها عظيمةً في صبرها وزاخرة في إيمانها وراسخة في عزيمتها.
تحدّيات سياسيّة وأمنيّة من وشاة ومفترين
منذ الأيام الأولى لاندلاع الثورة السورية، وتحت ضغط الممارسات العشوائيّة والقمعيّة للنظام البائد، وما عانته غالبية المخيمات الفلسطينية من التدمير الممنهج كمخيم اليرموك وخان الشيخ وحندرات فأحدث تحوّلات كبيرة طرأت على حياة المرأة في سورية بشكل عام والمرأة الفلسطينية بشكل خاص، حيث اضطرت غالبية السيدات الفلسطينيات للدخول إلى سوق العمل تعويضاً عن غياب رب الأسرة أو معيلها المخطوف أو المعتقل أو المقطوعة أخباره بسبب الاعتقالات التعسفية التي كانت ترتكب دون مبرر.
هذا التغيير في حياة المرأة الفلسطينية ومهامها فرض عليها مسؤوليات تفوق قدرتها ووظيفتها الطبيعية،
بعد أن كانت متفرّغة لشؤون أسرتها ومكرّسة وقتها لتربية أطفالها، فاحتفظت بدورها ووظيفتها التقليدية كربّة منزل، لعقود مديدة.
وعرض تقرير للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة عن عدد كبير من النساء الفلسطينيات في سورية وقعن ضحيّة العزلة والمصاعب النفسية والخوف المستمرّ، ليخضن نضالاً مستمراً من أجل البقاء في ظل واقع دمويّ وقاتل.
ظلم الزواج: إما غير متوازن أو مبكّر
هذا الواقع الجديد في سورية غيّر معايير العمل النسائي الذي كان في الماضي مقصوراً على الحاجة الاقتصادية الحادة فقط. ففي زمن الحرب والتهجير، أصبحت المرأة الفلسطينية مسؤولة عن إعالة أسرتها وتلبية المتطلبات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، بدلاً من دورها الذي كان يقتصر غالباً على رعاية الأطفال والمنزل. ومع هدم المنازل أو فرض التهجير القسري منها وفقد المعيلين من الآباء أو الأزواج أو الأبناء، تحوّل هذا العبء مهمة صعبة أثقلت كاهل المرأة، بالإضافة إلى اضطرار الفتيات في سن الزواج للقبول بزواج غير متوازن وبدون مراعاة الظروف الأخلاقية أو المادية للزوج المحتمل، فكان الهدف من الزواج في ظل تأثير الظروف المأساوية المنوه عنها أعلاه فقط تأمين السترة والبقاء بحدوده الدنيا إضافة إلى زيادة حالات زواج القاصرات دون سن الثامنة عشرة من أعمارهن.
قتل وتهجير وتغييب قسري
المأساة لم تتوقف عند التحديات الأسرية؛ التي من مظاهرها تدمير المنازل والاعتقالات العشوائية والفقر المدقع ما دفع دفع الكثير من الرجال للهجرة أو عرّضهم للقتل المباشر. هذه الحال أدّت إلى تغييرات ديموغرافية كبيرة فباتت نسبة النساء في المخيمات تفوق نسبة الرجال بشكل ملحوظ. وهذا خلق تغيرات اجتماعية واضحة، بما لها من ضغوط أخلاقية على العادات والتقاليد للأسرة الفلسطينية، منها انخفاض معدّلات الزواج وزيادة حالات الطلاق والعنوسة.
المرأة الفلسطينية في مواجهة الأخطار
لم تكن المخيمات الفلسطينية معتادة تاريخياً على رؤية نساء يعملن بنسب كبيرة كما هو الحال اليوم. فقد كانت قلة قليلة من النساء الفلسطينيات تلجأ للعمل نتيجة ظروف الحياة الصعبة، إلا أن سنوات الحرب أدت إلى زيادة ملحوظة في نسبة النساء العاملات. فقد دفعهن ذلك إلى السعي لتأمين حياة كريمة لأسرهن، ونجحن إلى حد كبير في تحقيق أهدافهن. لكن جهود الأم الفلسطينية لم تذهب سدًى فأطفال الماضي وأيتامه الذين فقدوا معيلهم أصبحوا اليوم طلاباً أو متخرّجين جامعيين.
السيدة أمل: لديّ ثلاثة متخصّصون
السيدة أمل، على سبيل المثال، تعمل معلمة في إحدى مدارس الأونروا، وقد تم اعتقال زوجها تاركاً لها ثلاثة أولاد وبنت. اليوم، تحول هؤلاء الأبناء إلى معلم، مهندس، طبيب أسنان، وأصغرهم خريج في تخصص التربية وعلم النفس.
السيدة رزان: نضال الإعالة بعد فقدان أثر الزوج
بقلب يغمره الحزن وأعين مليئة بالدموع، روت السيدة رزان قصتها لـ"مجموعة العمل" قائلة: قبل عام 2011، كانت حياتنا تتّسم بالبساطة والاستقرار النسبيّ بفضل زوجٍ طيب القلب وحنون، أنجبتُ منه ثلاثة أطفال. ولكن هذا الاستقرار والأمان تبدّدا في ذلك اليوم المشؤوم الذي شهد اعتقال زوجي. فقد تم احتجازه أثناء ذهابه لشراء بعض الحاجيّات من المدينة على حاجز باب توما في دمشق. حينذاك كان عمر طفلي الأصغر لا يتجاوز ثلاثة أشهر، بينما كان الأكبر يقارب خمس سنوات.
استغرقتُ أكثر من ثلاثة أشهر أتنقل بين الحواجز والفروع الأمنية في محاولة يائسة لمعرفة مصير زوجي أو الحصول على أي أمل بسيط يطمئن قلبي. كنا نسكن منزلاً بالإيجار، لكن عجزت عن إيفاء المستحقات المالية، مما أجبرني على الانتقال مع أطفالي الثلاثة إلى غرفة في بيت أهل زوجي. وكي أوفر الحد الأدنى من متطلبات الحياة، عملت خادمة في منزل إحدى العائلات الميسورة لقاء أجر زهيد ليسد احتياجاتنا اليومية. كنتّ أصطحب طفلي الأصغر إلى عملي، فيما يبقى الآخران في رعاية والدة زوجي المسنّة.
مرّت السنوات وأنا متمسكة بالأمل في لقاء زوجي، رغم تضاؤل نور الأمل. ومع سقوط النظام وتحرير السجون، والعثور على عدد كبير من المقابر الجماعية، بدأتُ جولة جديدة من البحث المضني بين الناجين من المعتقلات. ولكن كل محاولاتي باءت بالفشل، حتى أدركت مع مرور الوقت أنه قد غاب عن حياتنا إلى الأبد.
السيدة باسمة: وشاية أخفت أبني للأبد
بصورة معبرة مختلفة للألم، تروي السيدة باسمة أحمد قصتها بمرارة قائلة: كان فادي أصغر أبنائي وأقربهم إلى قلبي. كم كنتُ أحلم بذلك اليوم الذي أراه فيه عريساً وأهنأ برؤية أطفاله. لكن القدر كان يخبئ لنا معاناة أخرى، إذ أن يد الغدر والوشاية لم ترحمنا. قدّمت سيدة تفتقر إلى أدنى معاني الإنسانية وشاية ضد فادي تتهمه بالارتباط بالثوار، مما أدّى إلى اعتقاله ظلماً. ومنذ ذلك الحين، حُرمت عيني من رؤيته. لقد كان غيابه وجعاً لا يُحتمل ولا يمكنني نسيانه. وفقدنا أثره كلياً منذ تلك الجريمة النكراء.
خلاصة
ثلاث شهادات رغم إيجازها، لكنها ناضحة بالوجع والألم، تثبت معاناة المرأة الفلسطينية وقدرتها على الصمود والعطاء غير المحدود، رغم الظروف القاسية والواقع المرير الذي فرضته سنوات الظلم والقهر والمعاناة. لكنها إلى ذلك أظهرت أيضاً دورها الأساسي حامية لعائلتها ومعبراً عن الروح الفلسطينية الجديرة بالكرامة والحياة وأرشيفاً ناطقاً للذاكرة الوطنية، حيث نقلت الرواية الفلسطينية بوجعها وذكرياتها وآلامها وآمالها إلى الأجيال الجديدة ليبقى الفلسطينيون، أينما كانوا، متمسكين بحقهم في العودة إلى وطنهم وحقهم بكرامة الإنسان الجدير بحياة لائقة، ولم ينسوا جرائم الماضي مهما حدث، أكان مرتكبها عدو الوجود أم سفاحاً داخل الحدود.