نضال الخليل | مجموعة العمل
منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011 وما انفتح بعدها من فصول الحرب والتفكك والانهيار وجد الفلسطينيّ السوريّ نفسه مجددًا في قلب جغرافيا العطب لكنّ أقسى ما تكشّف في هذا المسار لم يكن فقط الموت أو التهجير أو الفقر بل ذلك الغياب الذي لا يُرى: المغَيَّبون قسرًا
هؤلاء الذين صار لهم من السجلات — في دفاتر المنظمات والجهات الحقوقية — ما يكفي لبناء قبر رمزي لكن تلك السجلات نفسها لم تكفِ يومًا لتحديد مصائرهم أو لردّهم إلى العلن
ومع سقوط مركزية النظام في أجزاء واسعة من البلاد ظهرت عشرات الجمعيات الجديدة والمنظمات المحلية والدولية التي جعلت من توثيق المغيّبين ملفًّا رئيسًا
غير أنّ هذا التعدد لم ينجح في أن يتحوّل إلى بوصلة واحدة تتقاطع عندها شهادات الأهالي أو إلى قوة ضغط تُجبر السلطات الفعلية المتغيرة والمتعددة على كشف الحقيقة.
أولًا: من الغياب الفردي إلى الغياب الجماعي
لم يكن الفلسطينيّ في سوريا مجرد لاجئ بل كان — منذ عقود — ابنًا لنظام بيروقراطي استثنائي تجتمع فيه ذاكرة النكبة مع إدارة الدولة
ومع بدء الاعتقالات الواسعة في 2011 وما بعدها تسرّبت أخبار المغيّبين الفلسطينيين كما تتسرّب الشقوق في جدار قديم
الأسماء تتناسل والقصص تتكرّر والعائلات تتعلّق بكل مُبلَّغ غير رسمي وكل همسة ناجٍ وكل إشاعة تُنسب إلى سجن ما
في هذا المشهد برزت الحاجة إلى توثيق جماعي وموحد إلا أنّ ما حدث هو العكس تمامًا تناسلت الجهات وتكاثرت الأرشيفات وباتت الحقيقة موزعة بين عشرات المنصات
ثانيًا: انفجار المنظمات بعد 2011 — توليد السجلات دون توليد الحقيقة
منذ سقوط سيطرة النظام في مناطق متعددة وبينها مناطق فلسطينية أو محاذية للمخيمات نشأت عشرات المبادرات والجمعيات التي أعلنت أنها تعمل على توثيق المغيّبين بعضها حقوقي، بعضها إعلامي، بعضها محلي ناشئ على يد ناشطين، بعضها مرتبط بجهات خارجية.
هذه الظاهرة يمكن وصفها بثلاث ملامح رئيسية:
1. وفرة السجلات - قلّة المنهجية
كان يمكن لأي فريق مبتدئ أن يُنشئ قاعدة بيانات ويجمع شهادات ويصنفها لكنّ غياب المعايير الحقوقية الصارمة جعل المعلومات متداخلة أو مكررة أو غير قابلة للاستخدام القانوني لاحقًا
أحيانًا يحمل الشخص نفسه ثلاثة ملفات مختلفة لدى ثلاث منظمات وكلّ منها تقول إنها “وثقت”
2. توثيق بلا أفق قضائي
لم تنجح هذه الجهات— رغم أهميتها المعنوية— في تحويل الكمّ إلى قدرة ضغط قانونية حقيقية فهي لا تملك صلاحية الوصول إلى الأرشيف الأمني ولا تملك أدوات تفاوض مع السلطات ولا تملك محكمة تحتكم إليها
أقصى ما تفعله: تكديس الغياب دون أن تحوّله إلى حضور قانوني
3. ضبابية دورية: غياب التنسيق وتضارب الأدوار
يشبه المشهد خريطة تتنازعها أيادٍ كثيرة منظمة تجمع الشهادات وأخرى تصنّفها وثالثة تصدر تقريرًا إنشائيًا ورابعة تتبنّى حالة ما لأهداف تمويلية
والنتيجة: أكثر من أرشيف… أقل من حقيقة
ثالثًا: أثر هذا التشتت على عائلات المغيّبين
العائلة التي تبحث عن ابنها أو ابنتها تجد نفسها أمام متاهة: مؤسسة تطلب مقابلة وأخرى تسأل عن الوثائق وثالثة تأتي بعد عام لتعيد طرح الأسئلة نفسها
يتحوّل الزمن إلى خصم تتآكل قدرة الأهل على إعادة سرد القصة نفسها من جديد وبدل أن تكون هذه المنظمات جسرًا نحو اليقين تغدو — دون قصد — طبقة جديدة من الضباب بين العائلة والواقع
المفارقة المؤلمة أن بعض العائلات باتت تحتفظ بأرشيف خاص بها أكبر من أرشيف المنظمات نفسها لكنها — رغم ذلك — لا تعرف شيئًا عن مصير أحبّتها
رابعًا: هل فشلت هذه المنظمات؟ أم أنها تعمل في فراغ يستحيل ملؤه؟
من الظلم القول إن المبادرات فشلت تمامًا بعضها لعب دورًا محوريًا في حفظ الشهادات من الضياع وفي تعريف العالم بالمأساة لكنّ الحقيقة الأعمق أن هذه المنظمات تعمل في بيئة بلا سيادة قانون، بلا أرشيف دولة، بلا مساءلة، بلا إمكانية للوصول إلى أماكن الاحتجاز
إنّها تحاول الإمساك بالماء وتحويل الألم إلى ملفّ والصدمة إلى رقم وهذه مهمة أكبر من إمكانياتها مهما حسنت النوايا.
خامسًا: نحو مقاربة حقوقية جديدة — من التوثيق المتناثر إلى منصة موحّدة
ما ينقص ملف المغيّبين من فلسطينيي سوريا ليس مزيدًا من المبادرات بل صياغة منهجية وطنية واحدة:
1. إنشاء منصة مركزية موحدة
تجمع كل بيانات المنظمات العاملة منذ 2011 وتدمج المتشابه وتدقّق في المتضارب وتنتج ملفًا واحدًا لكل مفقود
2. توحيد المعايير الحقوقية
بحيث يصبح كل توثيق قابلًا للاستخدام لاحقًا أمام لجان تقصّي الحقائق أو المحاكم الدولية
3. إشراك العائلات في عملية صنع القرار
فهم ليسوا “مصادر معلومات” لكنهم أصحاب الملف
4. نقل الملف من الحالة الإنسانية إلى الحالة القانونية
فلا يكفي القول “هناك مغيّبون” بل يجب أن يُقال:
- من المسؤول؟
- كيف يُحاسب؟
- كيف يُعاد الحقّ إلى ذويه؟
إنّ مأساة المغيّبين من فلسطينيي سوريا لم تعد مأساة الغياب وحده لكنها مأساة كيف يتحوّل الغياب إلى ورق.
أوراق كثيرة، منظمات كثيرة، تقارير كثيرة لكن الحقيقة — تلك التي وحدها تملك القدرة على شفاء الأمهات — ما تزال معلّقة في مكان بين الذاكرة والإنكار
لقد صار لهؤلاء من السجلات ما يكفي لبناء قبر رمزي لهم لكنهم ما زالوا — حتى اللحظة — أحياءً في جرح عائلاتهم وأحياءً في السؤال الذي لم يُجب عنه أحد:
- أين هم؟
- ومتى يعود الغياب إلى اسمه الأول: الحضور؟
نضال الخليل | مجموعة العمل
منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011 وما انفتح بعدها من فصول الحرب والتفكك والانهيار وجد الفلسطينيّ السوريّ نفسه مجددًا في قلب جغرافيا العطب لكنّ أقسى ما تكشّف في هذا المسار لم يكن فقط الموت أو التهجير أو الفقر بل ذلك الغياب الذي لا يُرى: المغَيَّبون قسرًا
هؤلاء الذين صار لهم من السجلات — في دفاتر المنظمات والجهات الحقوقية — ما يكفي لبناء قبر رمزي لكن تلك السجلات نفسها لم تكفِ يومًا لتحديد مصائرهم أو لردّهم إلى العلن
ومع سقوط مركزية النظام في أجزاء واسعة من البلاد ظهرت عشرات الجمعيات الجديدة والمنظمات المحلية والدولية التي جعلت من توثيق المغيّبين ملفًّا رئيسًا
غير أنّ هذا التعدد لم ينجح في أن يتحوّل إلى بوصلة واحدة تتقاطع عندها شهادات الأهالي أو إلى قوة ضغط تُجبر السلطات الفعلية المتغيرة والمتعددة على كشف الحقيقة.
أولًا: من الغياب الفردي إلى الغياب الجماعي
لم يكن الفلسطينيّ في سوريا مجرد لاجئ بل كان — منذ عقود — ابنًا لنظام بيروقراطي استثنائي تجتمع فيه ذاكرة النكبة مع إدارة الدولة
ومع بدء الاعتقالات الواسعة في 2011 وما بعدها تسرّبت أخبار المغيّبين الفلسطينيين كما تتسرّب الشقوق في جدار قديم
الأسماء تتناسل والقصص تتكرّر والعائلات تتعلّق بكل مُبلَّغ غير رسمي وكل همسة ناجٍ وكل إشاعة تُنسب إلى سجن ما
في هذا المشهد برزت الحاجة إلى توثيق جماعي وموحد إلا أنّ ما حدث هو العكس تمامًا تناسلت الجهات وتكاثرت الأرشيفات وباتت الحقيقة موزعة بين عشرات المنصات
ثانيًا: انفجار المنظمات بعد 2011 — توليد السجلات دون توليد الحقيقة
منذ سقوط سيطرة النظام في مناطق متعددة وبينها مناطق فلسطينية أو محاذية للمخيمات نشأت عشرات المبادرات والجمعيات التي أعلنت أنها تعمل على توثيق المغيّبين بعضها حقوقي، بعضها إعلامي، بعضها محلي ناشئ على يد ناشطين، بعضها مرتبط بجهات خارجية.
هذه الظاهرة يمكن وصفها بثلاث ملامح رئيسية:
1. وفرة السجلات - قلّة المنهجية
كان يمكن لأي فريق مبتدئ أن يُنشئ قاعدة بيانات ويجمع شهادات ويصنفها لكنّ غياب المعايير الحقوقية الصارمة جعل المعلومات متداخلة أو مكررة أو غير قابلة للاستخدام القانوني لاحقًا
أحيانًا يحمل الشخص نفسه ثلاثة ملفات مختلفة لدى ثلاث منظمات وكلّ منها تقول إنها “وثقت”
2. توثيق بلا أفق قضائي
لم تنجح هذه الجهات— رغم أهميتها المعنوية— في تحويل الكمّ إلى قدرة ضغط قانونية حقيقية فهي لا تملك صلاحية الوصول إلى الأرشيف الأمني ولا تملك أدوات تفاوض مع السلطات ولا تملك محكمة تحتكم إليها
أقصى ما تفعله: تكديس الغياب دون أن تحوّله إلى حضور قانوني
3. ضبابية دورية: غياب التنسيق وتضارب الأدوار
يشبه المشهد خريطة تتنازعها أيادٍ كثيرة منظمة تجمع الشهادات وأخرى تصنّفها وثالثة تصدر تقريرًا إنشائيًا ورابعة تتبنّى حالة ما لأهداف تمويلية
والنتيجة: أكثر من أرشيف… أقل من حقيقة
ثالثًا: أثر هذا التشتت على عائلات المغيّبين
العائلة التي تبحث عن ابنها أو ابنتها تجد نفسها أمام متاهة: مؤسسة تطلب مقابلة وأخرى تسأل عن الوثائق وثالثة تأتي بعد عام لتعيد طرح الأسئلة نفسها
يتحوّل الزمن إلى خصم تتآكل قدرة الأهل على إعادة سرد القصة نفسها من جديد وبدل أن تكون هذه المنظمات جسرًا نحو اليقين تغدو — دون قصد — طبقة جديدة من الضباب بين العائلة والواقع
المفارقة المؤلمة أن بعض العائلات باتت تحتفظ بأرشيف خاص بها أكبر من أرشيف المنظمات نفسها لكنها — رغم ذلك — لا تعرف شيئًا عن مصير أحبّتها
رابعًا: هل فشلت هذه المنظمات؟ أم أنها تعمل في فراغ يستحيل ملؤه؟
من الظلم القول إن المبادرات فشلت تمامًا بعضها لعب دورًا محوريًا في حفظ الشهادات من الضياع وفي تعريف العالم بالمأساة لكنّ الحقيقة الأعمق أن هذه المنظمات تعمل في بيئة بلا سيادة قانون، بلا أرشيف دولة، بلا مساءلة، بلا إمكانية للوصول إلى أماكن الاحتجاز
إنّها تحاول الإمساك بالماء وتحويل الألم إلى ملفّ والصدمة إلى رقم وهذه مهمة أكبر من إمكانياتها مهما حسنت النوايا.
خامسًا: نحو مقاربة حقوقية جديدة — من التوثيق المتناثر إلى منصة موحّدة
ما ينقص ملف المغيّبين من فلسطينيي سوريا ليس مزيدًا من المبادرات بل صياغة منهجية وطنية واحدة:
1. إنشاء منصة مركزية موحدة
تجمع كل بيانات المنظمات العاملة منذ 2011 وتدمج المتشابه وتدقّق في المتضارب وتنتج ملفًا واحدًا لكل مفقود
2. توحيد المعايير الحقوقية
بحيث يصبح كل توثيق قابلًا للاستخدام لاحقًا أمام لجان تقصّي الحقائق أو المحاكم الدولية
3. إشراك العائلات في عملية صنع القرار
فهم ليسوا “مصادر معلومات” لكنهم أصحاب الملف
4. نقل الملف من الحالة الإنسانية إلى الحالة القانونية
فلا يكفي القول “هناك مغيّبون” بل يجب أن يُقال:
- من المسؤول؟
- كيف يُحاسب؟
- كيف يُعاد الحقّ إلى ذويه؟
إنّ مأساة المغيّبين من فلسطينيي سوريا لم تعد مأساة الغياب وحده لكنها مأساة كيف يتحوّل الغياب إلى ورق.
أوراق كثيرة، منظمات كثيرة، تقارير كثيرة لكن الحقيقة — تلك التي وحدها تملك القدرة على شفاء الأمهات — ما تزال معلّقة في مكان بين الذاكرة والإنكار
لقد صار لهؤلاء من السجلات ما يكفي لبناء قبر رمزي لهم لكنهم ما زالوا — حتى اللحظة — أحياءً في جرح عائلاتهم وأحياءً في السؤال الذي لم يُجب عنه أحد:
- أين هم؟
- ومتى يعود الغياب إلى اسمه الأول: الحضور؟