سعيد سليمان | مجموعة العمل
هل يبدأ التعليم من الصفر؟
مع سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، دخلت سوريا مرحلة سياسية جديدة محمّلة بإرث ثقيل من الدمار المادي والإنساني، كان التعليم أحد أبرز ضحاياه. وبالنسبة للاجئين الفلسطينيين في سوريا، لا سيما الأطفال، لم يكن سقوط النظام حدثًا سياسيًا مجردًا، بل لحظة اختبار حقيقية: هل سيفتح هذا التحول الباب أمام استعادة الحق في التعليم، أم سيبقى هذا الحق معلّقًا بين وعود إعادة الإعمار وعجز المجتمع الدولي؟
بعد أكثر من 13 عامًا من الحرب، يقف آلاف الأطفال الفلسطينيين اليوم أمام مدارس مدمّرة أو مغلقة أو تعمل بطاقة جزئية، فيما تواجه وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) تحديًا مركّبًا يتمثل في إعادة تشغيل منظومة تعليمية أُنهكت بفعل القصف، النزوح، ونقص التمويل، وسط واقع سياسي جديد لم تتضح ملامحه بعد.
التعليم قبل 2011: مسار مستقر ضُرب في الصميم
قبل اندلاع الثورة السورية عام 2011، كان اللاجئون الفلسطينيون في سوريا يُعدّون من أكثر مجتمعات اللجوء استقرارًا على المستوى التعليمي. فقد أدارت الأونروا آنذاك 118 مدرسة في مختلف المحافظات، كان يدرس فيها نحو 67,300 طالب وطالبة، مع معدلات التحاق مرتفعة ومستويات أمية منخفضة، خصوصًا بين الإناث.
لم يكن هذا الواقع نتاج سياسات النظام السوري بقدر ما كان نتيجة استثمار فلسطيني تاريخي في التعليم، ودور محوري للأونروا التي شكّلت العمود الفقري للتعليم الأساسي والإعدادي، إلى جانب مراكز التدريب المهني. غير أن هذا المسار سرعان ما انهار مع عسكرة البلاد وتحويل المخيمات إلى ساحات صراع.
مسؤولية النظام السابق: مدارس تحت القصف ومخيمات بلا تعليم
خلال سنوات النزاع، تحمّل نظام بشار الأسد مسؤولية مباشرة عن تدمير البنية التحتية التعليمية في المخيمات الفلسطينية، سواء عبر القصف المباشر أو تحويل المدارس إلى ثكنات ومراكز عسكرية أو مراكز إيواء قسرية. وتشير تقديرات الأونروا إلى أن نحو 40% من مدارسها في سوريا تعرضت للتدمير أو الضرر الجزئي، فيما أُغلقت 76 مدرسة بشكل كامل في ذروة العمليات العسكرية.
في مخيم اليرموك وحده، الذي كان يُعد العاصمة الرمزية لفلسطينيي سوريا، خرجت جميع مدارس الأونروا تقريبًا عن الخدمة بين عامي 2013 و2018، نتيجة الحصار والقصف، ما حرم جيلًا كاملًا من التعليم المنتظم. الأمر نفسه انسحب، بدرجات متفاوتة، على مخيمات خان الشيح، درعا، حندرات، والرمل في اللاذقية.
النزوح والتسرب: تعليم متقطع وجيل مهدد بالضياع
أدى النزوح المتكرر داخليًا وخارجيًا إلى تفكيك المسار التعليمي لآلاف الأطفال الفلسطينيين. فقد نزح أكثر من 60% من فلسطينيي سوريا مرة واحدة على الأقل، فيما لجأ نحو 120 ألفًا إلى دول الجوار، حيث واجه الأطفال أنظمة تعليم مختلفة، واكتظاظًا، وتمييزًا في بعض الأحيان.
ووفق بيانات متقاطعة، لم يتمكن سوى نحو 70% من الطلاب الذين كانوا مسجلين في مدارس الأونروا قبل 2011 من مواصلة تعليمهم بشكل منتظم خلال سنوات الحرب. أما اليوم، فلا تزال فجوات التعلم واسعة، مع تأخر تعليمي يصل في بعض الحالات إلى 5–6 سنوات.
2025: ما الذي تغيّر فعليًا على الأرض؟
مع بداية عام 2025، وبعد مرور أكثر من عام على سقوط النظام، لم ينعكس التحول السياسي بشكل جذري على واقع التعليم في مخيمات الفلسطينيين، وإن ظهرت بعض المؤشرات المحدودة:
مخيم اليرموك (دمشق):
حتى مطلع 2025، لم تُعد الأونروا فتح مدارسها بشكل كامل داخل المخيم. بعض المباني المدرسية ما تزال مدمّرة أو غير صالحة للاستخدام، فيما يضطر الطلاب إلى الالتحاق بمدارس بديلة خارج المخيم أو بنظام الدوام الجزئي. ولا توجد حتى الآن خطة زمنية معلنة لإعادة تشغيل جميع المدارس.
مخيم خان الشيح (ريف دمشق):
تعمل بعض مدارس الأونروا بطاقة جزئية، مع اكتظاظ واضح ونقص في الكوادر التعليمية، وسط مطالبات شعبية بإعادة تأهيل المدارس المتضررة وضمان بيئة تعليمية آمنة.
مخيم درعا:
لا تزال العملية التعليمية تعاني من هشاشة شديدة، نتيجة تضرر البنية التحتية واستمرار عدم الاستقرار الأمني والخدمي. عدد من مدارس الأونروا لم يُعاد افتتاحها حتى الآن.
حلب (حندرات والنيرب):
تشهد بعض المدارس تحسنًا نسبيًا من حيث الاستقرار، إلا أن القدرة الاستيعابية محدودة، ولا تلبي احتياجات جميع الأطفال، خصوصًا العائدين حديثًا.
وبحسب بيانات الأونروا لعام 2024/2025، بلغ عدد الطلاب المسجلين في مدارسها في سوريا نحو 50,500 طالب في 104 مدارس، أي أقل بنحو 25% مقارنة بما قبل الحرب.
الأونروا في مرحلة اختبار حقيقي
اليوم، تجد الأونروا نفسها أمام اختبار مزدوج: استعادة دورها التعليمي في بيئة ما بعد النظام، في وقت تعاني فيه من أزمة تمويل خانقة تهدد استمرارية برامجها. وعلى الرغم من اعتماد الوكالة برامج “التعليم في حالات الطوارئ” والدعم النفسي الاجتماعي، إلا أن هذه التدخلات تبقى محدودة الأثر ما لم تُستكمل بإعادة إعمار حقيقية للمدارس وتوظيف معلمين وتحديث المناهج التعويضية.
إن المرحلة الحالية تضع الأونروا والمجتمع الدولي أمام مسؤولية أخلاقية وقانونية: فاستمرار العمل بمنطق “إدارة الأزمة” بعد سقوط النظام يعني عمليًا القبول بإدامة ضياع جيل كامل.
الأثر النفسي والاجتماعي: تعليم بلا تعافٍ
لا يمكن فصل أزمة التعليم عن آثار الحرب النفسية على الأطفال. فآلاف الطلاب الفلسطينيين يعانون من صدمات نفسية، قلق، صعوبات تركيز، واضطرابات سلوكية، ما ينعكس مباشرة على قدرتهم على التعلم. ورغم وجود برامج دعم نفسي، إلا أن عدد المستشارين محدود ولا يتناسب مع حجم الاحتياج الفعلي.
التعليم ليس منحة… بل حق مؤجل
بعد سقوط نظام بشار الأسد، لم يعد مقبولًا التعامل مع تعليم أطفال فلسطينيي سوريا كملف إنساني ثانوي أو رهينة نقص التمويل. ما يجري اليوم هو اختبار حقيقي لالتزام المجتمع الدولي، ولقدرة الأونروا على الانتقال من إدارة الانهيار إلى استعادة الحق.
إن إعادة فتح مدارس اليرموك، خان الشيح، درعا، وحلب ليست مسألة تقنية، بل استحقاق حقوقي. فكل عام إضافي من التعليم المنقوص يعني تكريس “جيل ضائع” جديد، ودفع ثمن سياسي واجتماعي طويل الأمد.
التعليم هنا ليس ترفًا، ولا أداة تحسين فرص فردية فحسب، بل شرط أساسي للعدالة، ولإعادة ترميم ما دمرته سنوات القمع والحرب. وأي تأخير إضافي هو شكل آخر من أشكال الحرمان المنهجي، لا يقل خطورة عن القصف الذي دمّر المدارس في المقام الأول.
سعيد سليمان | مجموعة العمل
هل يبدأ التعليم من الصفر؟
مع سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، دخلت سوريا مرحلة سياسية جديدة محمّلة بإرث ثقيل من الدمار المادي والإنساني، كان التعليم أحد أبرز ضحاياه. وبالنسبة للاجئين الفلسطينيين في سوريا، لا سيما الأطفال، لم يكن سقوط النظام حدثًا سياسيًا مجردًا، بل لحظة اختبار حقيقية: هل سيفتح هذا التحول الباب أمام استعادة الحق في التعليم، أم سيبقى هذا الحق معلّقًا بين وعود إعادة الإعمار وعجز المجتمع الدولي؟
بعد أكثر من 13 عامًا من الحرب، يقف آلاف الأطفال الفلسطينيين اليوم أمام مدارس مدمّرة أو مغلقة أو تعمل بطاقة جزئية، فيما تواجه وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) تحديًا مركّبًا يتمثل في إعادة تشغيل منظومة تعليمية أُنهكت بفعل القصف، النزوح، ونقص التمويل، وسط واقع سياسي جديد لم تتضح ملامحه بعد.
التعليم قبل 2011: مسار مستقر ضُرب في الصميم
قبل اندلاع الثورة السورية عام 2011، كان اللاجئون الفلسطينيون في سوريا يُعدّون من أكثر مجتمعات اللجوء استقرارًا على المستوى التعليمي. فقد أدارت الأونروا آنذاك 118 مدرسة في مختلف المحافظات، كان يدرس فيها نحو 67,300 طالب وطالبة، مع معدلات التحاق مرتفعة ومستويات أمية منخفضة، خصوصًا بين الإناث.
لم يكن هذا الواقع نتاج سياسات النظام السوري بقدر ما كان نتيجة استثمار فلسطيني تاريخي في التعليم، ودور محوري للأونروا التي شكّلت العمود الفقري للتعليم الأساسي والإعدادي، إلى جانب مراكز التدريب المهني. غير أن هذا المسار سرعان ما انهار مع عسكرة البلاد وتحويل المخيمات إلى ساحات صراع.
مسؤولية النظام السابق: مدارس تحت القصف ومخيمات بلا تعليم
خلال سنوات النزاع، تحمّل نظام بشار الأسد مسؤولية مباشرة عن تدمير البنية التحتية التعليمية في المخيمات الفلسطينية، سواء عبر القصف المباشر أو تحويل المدارس إلى ثكنات ومراكز عسكرية أو مراكز إيواء قسرية. وتشير تقديرات الأونروا إلى أن نحو 40% من مدارسها في سوريا تعرضت للتدمير أو الضرر الجزئي، فيما أُغلقت 76 مدرسة بشكل كامل في ذروة العمليات العسكرية.
في مخيم اليرموك وحده، الذي كان يُعد العاصمة الرمزية لفلسطينيي سوريا، خرجت جميع مدارس الأونروا تقريبًا عن الخدمة بين عامي 2013 و2018، نتيجة الحصار والقصف، ما حرم جيلًا كاملًا من التعليم المنتظم. الأمر نفسه انسحب، بدرجات متفاوتة، على مخيمات خان الشيح، درعا، حندرات، والرمل في اللاذقية.
النزوح والتسرب: تعليم متقطع وجيل مهدد بالضياع
أدى النزوح المتكرر داخليًا وخارجيًا إلى تفكيك المسار التعليمي لآلاف الأطفال الفلسطينيين. فقد نزح أكثر من 60% من فلسطينيي سوريا مرة واحدة على الأقل، فيما لجأ نحو 120 ألفًا إلى دول الجوار، حيث واجه الأطفال أنظمة تعليم مختلفة، واكتظاظًا، وتمييزًا في بعض الأحيان.
ووفق بيانات متقاطعة، لم يتمكن سوى نحو 70% من الطلاب الذين كانوا مسجلين في مدارس الأونروا قبل 2011 من مواصلة تعليمهم بشكل منتظم خلال سنوات الحرب. أما اليوم، فلا تزال فجوات التعلم واسعة، مع تأخر تعليمي يصل في بعض الحالات إلى 5–6 سنوات.
2025: ما الذي تغيّر فعليًا على الأرض؟
مع بداية عام 2025، وبعد مرور أكثر من عام على سقوط النظام، لم ينعكس التحول السياسي بشكل جذري على واقع التعليم في مخيمات الفلسطينيين، وإن ظهرت بعض المؤشرات المحدودة:
مخيم اليرموك (دمشق):
حتى مطلع 2025، لم تُعد الأونروا فتح مدارسها بشكل كامل داخل المخيم. بعض المباني المدرسية ما تزال مدمّرة أو غير صالحة للاستخدام، فيما يضطر الطلاب إلى الالتحاق بمدارس بديلة خارج المخيم أو بنظام الدوام الجزئي. ولا توجد حتى الآن خطة زمنية معلنة لإعادة تشغيل جميع المدارس.
مخيم خان الشيح (ريف دمشق):
تعمل بعض مدارس الأونروا بطاقة جزئية، مع اكتظاظ واضح ونقص في الكوادر التعليمية، وسط مطالبات شعبية بإعادة تأهيل المدارس المتضررة وضمان بيئة تعليمية آمنة.
مخيم درعا:
لا تزال العملية التعليمية تعاني من هشاشة شديدة، نتيجة تضرر البنية التحتية واستمرار عدم الاستقرار الأمني والخدمي. عدد من مدارس الأونروا لم يُعاد افتتاحها حتى الآن.
حلب (حندرات والنيرب):
تشهد بعض المدارس تحسنًا نسبيًا من حيث الاستقرار، إلا أن القدرة الاستيعابية محدودة، ولا تلبي احتياجات جميع الأطفال، خصوصًا العائدين حديثًا.
وبحسب بيانات الأونروا لعام 2024/2025، بلغ عدد الطلاب المسجلين في مدارسها في سوريا نحو 50,500 طالب في 104 مدارس، أي أقل بنحو 25% مقارنة بما قبل الحرب.
الأونروا في مرحلة اختبار حقيقي
اليوم، تجد الأونروا نفسها أمام اختبار مزدوج: استعادة دورها التعليمي في بيئة ما بعد النظام، في وقت تعاني فيه من أزمة تمويل خانقة تهدد استمرارية برامجها. وعلى الرغم من اعتماد الوكالة برامج “التعليم في حالات الطوارئ” والدعم النفسي الاجتماعي، إلا أن هذه التدخلات تبقى محدودة الأثر ما لم تُستكمل بإعادة إعمار حقيقية للمدارس وتوظيف معلمين وتحديث المناهج التعويضية.
إن المرحلة الحالية تضع الأونروا والمجتمع الدولي أمام مسؤولية أخلاقية وقانونية: فاستمرار العمل بمنطق “إدارة الأزمة” بعد سقوط النظام يعني عمليًا القبول بإدامة ضياع جيل كامل.
الأثر النفسي والاجتماعي: تعليم بلا تعافٍ
لا يمكن فصل أزمة التعليم عن آثار الحرب النفسية على الأطفال. فآلاف الطلاب الفلسطينيين يعانون من صدمات نفسية، قلق، صعوبات تركيز، واضطرابات سلوكية، ما ينعكس مباشرة على قدرتهم على التعلم. ورغم وجود برامج دعم نفسي، إلا أن عدد المستشارين محدود ولا يتناسب مع حجم الاحتياج الفعلي.
التعليم ليس منحة… بل حق مؤجل
بعد سقوط نظام بشار الأسد، لم يعد مقبولًا التعامل مع تعليم أطفال فلسطينيي سوريا كملف إنساني ثانوي أو رهينة نقص التمويل. ما يجري اليوم هو اختبار حقيقي لالتزام المجتمع الدولي، ولقدرة الأونروا على الانتقال من إدارة الانهيار إلى استعادة الحق.
إن إعادة فتح مدارس اليرموك، خان الشيح، درعا، وحلب ليست مسألة تقنية، بل استحقاق حقوقي. فكل عام إضافي من التعليم المنقوص يعني تكريس “جيل ضائع” جديد، ودفع ثمن سياسي واجتماعي طويل الأمد.
التعليم هنا ليس ترفًا، ولا أداة تحسين فرص فردية فحسب، بل شرط أساسي للعدالة، ولإعادة ترميم ما دمرته سنوات القمع والحرب. وأي تأخير إضافي هو شكل آخر من أشكال الحرمان المنهجي، لا يقل خطورة عن القصف الذي دمّر المدارس في المقام الأول.