مجموعة العمل ـ نضال الخليل
لا يمكن مقاربة الواقع الاقتصادي والمعيشي للفلسطيني في سوريا اليوم بوصفه نتيجةً مباشرةً لتحولٍ سياسيّ أو "لحظة ما بعد سلطة"؛ لأن ذلك يختزل المسألة في مداها الزمني القريب، ويعفي بنيتها العميقة من المساءلة. إن ما يعيشه الفلسطيني هو نتاج تاريخٍ سلطويٍ طويل، حيث جرى تنظيم الفقر لا بوصفه عارضاً اقتصادياً، بل كآلية حكم، وربط العمل والعيش والحقوق بمنطق السيطرة لا بمنطق الكرامة الإنسانية.
لقد صاغ النظام علاقة الفلسطيني بسوريا على نحوٍ مفارق: حضور دائم في الخطاب السياسي، وغياب ممنهج في البنية القانونية والاقتصادية. فلا الفلسطيني مُنِح وضعاً مدنياً واضحاً يضمن له حق العمل المستقر، ولا تُرِك لاجئاً كامل الحقوق تحميه منظومة قانونية شفافة. هذا التعليق المتعمد للهوية أنتج "فقراً مركباً": فقراً في الدخل، وفقراً في الأمان، وفقراً في القدرة على تخيل المستقبل.
العمل كامتياز هش
من هنا، لا يصبح غياب العمل ظاهرةً طارئة، بل نتيجة منطقية لبنيةٍ اقتصاديةٍ أُفرغت من معناها الاجتماعي؛ حيث تحول العمل من فعلِ اندماجٍ في المجتمع إلى امتيازٍ هشٍ قابلٍ للسحب. و
مع تدمير المخيمات، ولا سيما مخيم اليرموك، لم تُدمر الأبنية وحدها، بل انهارت الشبكات التي كانت تسمح بإعادة إنتاج الحياة:
وحين يُصادر العمل، لا يبقى للفرد سوى الاعتماد القسري على المساعدات؛ لا بوصفها دعماً انتقالياً، بل كنمط بقاءٍ دائم. هنا يتحول الفقر من مسألة معيشية إلى أزمة معنى: سقوط في اللغة اليومية للحياة، حيث يصبح "الخبز" سؤالاً وجودياً لا مجرد حاجة مادية. وفي غياب إطار قانوني واضح، يتعمق الإحساس باللايقين، ويعود الفلسطيني ليطرح السؤال نفسه:
"من أنا في هذا المكان؟ وما حدود حقي في أن أعيش بكرامة؟"
ليس الفقر هنا مجرد غياب المال، بل هو سقوط معنى العمل والقدرة على الاستمرار في الحياة.
أرقام خلفها حكايات: واقع "الأونروا"
وفق تقارير وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، يعيش حوالي 438,000 لاجئ فلسطيني في سوريا، تعاني نسبة كبيرة منهم (نحو 62%) من انعدام الأمن الغذائي؛ وهي نسبة ارتفعت بشكل حاد في السنوات الأخيرة في ظل انعدام فرص العيش الحقيقية.
إن هذا الرقم لا يعبر عن نقص في المواد فحسب، بل عن خلل في إمكانية "التعويل على الذات". فالفلسطيني الذي اعتاد أن يُنظر إليه —تاريخياً— كرمزٍ للمقاومة والبقاء، صار اليوم مهدداً في قدرته على تأمين طبقٍ يومي لأطفاله. وهذا ما يجعل الفقر في سوريا ليس مجرد عجزٍ مالي، بل سقوطاً في اللغة اليومية للعيش.
الصراع من أجل بقايا الكرامة
العمل في الحياة الإنسانية هو أكثر من مجرد وسيلة دخل؛ إنه تصريح بالوجود في العالم. لكن في واقع سوريا الراهن، تبدو فرص العمل محدودة للغاية، مما يدفع الكثير من اللاجئين للعودة إلى مخيمات مدمرة؛ ليس لأنهم وجدوا عملاً هناك، بل لعدم قدرتهم على دفع الإيجارات في أماكن النزوح. العائدون إلى مخيم اليرموك يفعلون ذلك بدافع الفقر ذاته.
في هذا السياق، تذكر "الأونروا" أنها وفرت مساعدات نقدية طارئة، لكن تمويلها لا يتجاوز 16.7% من الاحتياجات المعلنة، مما يجعل الدعم مقتصراً على دورات محدودة جداً. هنا ندرك أن الأزمة ليست نقصاً في الوظائف فحسب، بل هي "شرخ" في العلاقة بين الإنسان وقدرته على أن يشيد حياته بحرية.
المخيمات: من بؤس الحرب إلى العدم البنيوي
مخيم اليرموك أكبر تجمع فلسطيني في دمشق لم يعد مجرد مكان، بل أصبح حالة رمزية للانهيار الممتد، تحول من حيٍ نابض بالحياة إلى أنقاض تحمل صدى الذكريات. تدمير بنيته التحتية جعل العودة إليه تجربة مواجهة مباشرة مع العدم البنيوي.
إذا كان الإنسان يُقاس بقدرته على أن يكون فاعلاً، فإن الفلسطيني في سوريا قد جُرّد من هذه الفاعلية من جذورها، في ظل غياب وضع قانوني يضمن حقوقه، ليظل يسأل بمرارة:
يقول أحد لاجئي اليرموك مختصراً هذه المعاناة: "ليس لنا بيوت الآن، فهي مهدمة تماماً". هؤلاء لا يطلبون "كرتونات مساعدات" فحسب، بل يطلبون العودة إلى حياة يصوغونها بأيديهم؛ عبر العمل، والتعليم، وسقفٍ يحميهم من الشتاء. هذه الصرخة ليست رقماً في تقرير، بل هي بحثٌ عن "عنوان للحياة".
إن ما يختبره الفلسطيني في سوريا اليوم ليس أزمة معيشية عابرة، بل هي تجربة وجودية كاملة تُسحب فيها منه أدوات الفعل والمواطنة. في النهاية، لا يكمن السؤال في "كيف نخرج إنساناً من دائرة الفقر؟"، بل في: "كيف نعيد له حقه في أن يمتلك معنى لعمله، وكرامةً لحياته، وتوقُّعاً آمناً لمستقبله؟".
مجموعة العمل ـ نضال الخليل
لا يمكن مقاربة الواقع الاقتصادي والمعيشي للفلسطيني في سوريا اليوم بوصفه نتيجةً مباشرةً لتحولٍ سياسيّ أو "لحظة ما بعد سلطة"؛ لأن ذلك يختزل المسألة في مداها الزمني القريب، ويعفي بنيتها العميقة من المساءلة. إن ما يعيشه الفلسطيني هو نتاج تاريخٍ سلطويٍ طويل، حيث جرى تنظيم الفقر لا بوصفه عارضاً اقتصادياً، بل كآلية حكم، وربط العمل والعيش والحقوق بمنطق السيطرة لا بمنطق الكرامة الإنسانية.
لقد صاغ النظام علاقة الفلسطيني بسوريا على نحوٍ مفارق: حضور دائم في الخطاب السياسي، وغياب ممنهج في البنية القانونية والاقتصادية. فلا الفلسطيني مُنِح وضعاً مدنياً واضحاً يضمن له حق العمل المستقر، ولا تُرِك لاجئاً كامل الحقوق تحميه منظومة قانونية شفافة. هذا التعليق المتعمد للهوية أنتج "فقراً مركباً": فقراً في الدخل، وفقراً في الأمان، وفقراً في القدرة على تخيل المستقبل.
العمل كامتياز هش
من هنا، لا يصبح غياب العمل ظاهرةً طارئة، بل نتيجة منطقية لبنيةٍ اقتصاديةٍ أُفرغت من معناها الاجتماعي؛ حيث تحول العمل من فعلِ اندماجٍ في المجتمع إلى امتيازٍ هشٍ قابلٍ للسحب. و
مع تدمير المخيمات، ولا سيما مخيم اليرموك، لم تُدمر الأبنية وحدها، بل انهارت الشبكات التي كانت تسمح بإعادة إنتاج الحياة:
وحين يُصادر العمل، لا يبقى للفرد سوى الاعتماد القسري على المساعدات؛ لا بوصفها دعماً انتقالياً، بل كنمط بقاءٍ دائم. هنا يتحول الفقر من مسألة معيشية إلى أزمة معنى: سقوط في اللغة اليومية للحياة، حيث يصبح "الخبز" سؤالاً وجودياً لا مجرد حاجة مادية. وفي غياب إطار قانوني واضح، يتعمق الإحساس باللايقين، ويعود الفلسطيني ليطرح السؤال نفسه:
"من أنا في هذا المكان؟ وما حدود حقي في أن أعيش بكرامة؟"
ليس الفقر هنا مجرد غياب المال، بل هو سقوط معنى العمل والقدرة على الاستمرار في الحياة.
أرقام خلفها حكايات: واقع "الأونروا"
وفق تقارير وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، يعيش حوالي 438,000 لاجئ فلسطيني في سوريا، تعاني نسبة كبيرة منهم (نحو 62%) من انعدام الأمن الغذائي؛ وهي نسبة ارتفعت بشكل حاد في السنوات الأخيرة في ظل انعدام فرص العيش الحقيقية.
إن هذا الرقم لا يعبر عن نقص في المواد فحسب، بل عن خلل في إمكانية "التعويل على الذات". فالفلسطيني الذي اعتاد أن يُنظر إليه —تاريخياً— كرمزٍ للمقاومة والبقاء، صار اليوم مهدداً في قدرته على تأمين طبقٍ يومي لأطفاله. وهذا ما يجعل الفقر في سوريا ليس مجرد عجزٍ مالي، بل سقوطاً في اللغة اليومية للعيش.
الصراع من أجل بقايا الكرامة
العمل في الحياة الإنسانية هو أكثر من مجرد وسيلة دخل؛ إنه تصريح بالوجود في العالم. لكن في واقع سوريا الراهن، تبدو فرص العمل محدودة للغاية، مما يدفع الكثير من اللاجئين للعودة إلى مخيمات مدمرة؛ ليس لأنهم وجدوا عملاً هناك، بل لعدم قدرتهم على دفع الإيجارات في أماكن النزوح. العائدون إلى مخيم اليرموك يفعلون ذلك بدافع الفقر ذاته.
في هذا السياق، تذكر "الأونروا" أنها وفرت مساعدات نقدية طارئة، لكن تمويلها لا يتجاوز 16.7% من الاحتياجات المعلنة، مما يجعل الدعم مقتصراً على دورات محدودة جداً. هنا ندرك أن الأزمة ليست نقصاً في الوظائف فحسب، بل هي "شرخ" في العلاقة بين الإنسان وقدرته على أن يشيد حياته بحرية.
المخيمات: من بؤس الحرب إلى العدم البنيوي
مخيم اليرموك أكبر تجمع فلسطيني في دمشق لم يعد مجرد مكان، بل أصبح حالة رمزية للانهيار الممتد، تحول من حيٍ نابض بالحياة إلى أنقاض تحمل صدى الذكريات. تدمير بنيته التحتية جعل العودة إليه تجربة مواجهة مباشرة مع العدم البنيوي.
إذا كان الإنسان يُقاس بقدرته على أن يكون فاعلاً، فإن الفلسطيني في سوريا قد جُرّد من هذه الفاعلية من جذورها، في ظل غياب وضع قانوني يضمن حقوقه، ليظل يسأل بمرارة:
يقول أحد لاجئي اليرموك مختصراً هذه المعاناة: "ليس لنا بيوت الآن، فهي مهدمة تماماً". هؤلاء لا يطلبون "كرتونات مساعدات" فحسب، بل يطلبون العودة إلى حياة يصوغونها بأيديهم؛ عبر العمل، والتعليم، وسقفٍ يحميهم من الشتاء. هذه الصرخة ليست رقماً في تقرير، بل هي بحثٌ عن "عنوان للحياة".
إن ما يختبره الفلسطيني في سوريا اليوم ليس أزمة معيشية عابرة، بل هي تجربة وجودية كاملة تُسحب فيها منه أدوات الفعل والمواطنة. في النهاية، لا يكمن السؤال في "كيف نخرج إنساناً من دائرة الفقر؟"، بل في: "كيف نعيد له حقه في أن يمتلك معنى لعمله، وكرامةً لحياته، وتوقُّعاً آمناً لمستقبله؟".