map
RSS instagram youtube twitter facebook Google Paly App stores

عدد الضحايا

حتى اليوم

4294

ذاكرة في الطين. حكاية البقاء الفلسطيني في الشمال

تاريخ النشر : 29-12-2025
ذاكرة في الطين. حكاية البقاء الفلسطيني في الشمال

 نضال الخليلمجموعة العمل

في الشمال السوري، لا يعيش الفلسطينيون ما يشبه الحياة بقدر ما يعيشون "استعارتها" المرة. أولئك الذين بقوا هناك في خيامٍ ممتدة على وجه الجغرافيا ككدمات بيضاء، صاروا "لاجئين من اللجوء ذاته"؛ لا يملكون شيئاً من الوطن سوى اسمه الذي يتردد في الذاكرة، ولا من الحياة سوى استمرارٍ بيولوجيٍّ هشٍّ يختبر معنى البقاء.

تُقدّر المنظمات الإنسانية وجود مئات العائلات الفلسطينية في مناطق إدلب وريفها، وفي تجمعات أعزاز وعفرين والباب، ومن بينهم نازحو اليرموك وخان الشيح ودرعا؛ إنهم بقايا موجةٍ بشريةٍ خرجت من رماد الحرب لتجد نفسها في رمادٍ آخر يضيق ولا ينتهي.

الخيمة هناك ليست مأوىً مؤقتاً، بل قدرٌ مُقيم؛ تغرقها الأمطار وتخنقها الحرارة، لكنها تبقى عنواناً إجبارياً للحياة. ستٌّ من كل عشر خيام غير صالحة للسكن، وعدد من يملكون جدراناً ثابتة لا يتجاوز عشرة بالمئة. من لم يطرده القصف طرده الإيجار، أو غياب العقد، أو ارتفاع الأسعار. الصرف الصحي بدائي، والماء ملوث، والدورات المشتركة تُستعمل لعشرات الأشخاص.

يقول أحد الشبان في كفركرمين: «نحن لا نملك عنواناً، لكن الضرائب تعرفنا جيداً».

تلك الجملة تختصر الهوة بين الإنسان والسلطة، بين الوجود الفعلي والاعتراف القانوني. المرض في هذه الجغرافيا ليس حالة جسدية، بل هو مصير؛ فالفلسطينيون هناك خارج مظلة "الأونروا" منذ سنوات، يعتمدون على الجمعيات الطبية السورية الصغيرة والمنظمات الدولية المحدودة.

النقص في الأدوية مزمن، والمراكز الصحية أشبه بخيام موسّعة؛ ثلاثون بالمئة من الأطفال يعانون من سوء تغذية، والنساء يلدن في ظروف بدائية، والأمراض المزمنة تعني حكماً بالموت البطيء. يقول أحد الأطباء الفلسطينيين: «نمارس الطب كفعل رحمة لا كعلم».

الجسد هنا مادة قابلة للنفاد، والدواء رفاهية أخلاقية أكثر منه علاجاً. في المدارس المؤقتة، يتعلّم الأطفال منهجاً لا يشبههم؛ فلم تعد فلسطين تَرِدُ إلا عرَضاً، ولا اليرموك اسماً في الدروس، بل ذكرى على لسان المعلمين الكبار. نصف الأطفال تقريباً لا يكملون تعليمهم الثانوي؛ لأن الطريق إلى المدرسة أطول من الصبر، ولأن الجوع والبرد أسرع من الدروس.

يقول أحد المعلمين في دير بلوط: «الطفل الفلسطيني لا يحلم بأن يصبح طبيباً، بل بأن يصل إلى المدرسة دون أن يغرق في الوحل».

إنهم جيلٌ بلا خرائط، وذاكرة بلا أسماء. الاقتصاد هناك دائرة مغلقة من الفقر؛ أكثر من تسعين بالمئة من الفلسطينيين تحت خط الفقر، ودخل الفرد لا يتجاوز خمسةً وثلاثين دولاراً في الشهر. الأعمال متقطعة وموسمية، تتوزع بين البناء والزراعة وبعض المنظمات. لا أراضيَ يمتلكونها ولا حقوق ملكية واضحة؛ التمييز الخفي موجود والدعم الخارجي انخفض. إنهم يعيشون على فتات المساعدات والتحويلات المتناقصة من الأقارب في الشتات. الاقتصاد ليس دورة إنتاج، بل دورة نجاة؛ من يعمل لا يعمل لينتج، بل ليبقى.

المستقبل متغير هش، بلا ضابط؛ تتوالى الأيام وتبقى الخيمة ثابتة. الفلسطيني هناك عالق بين الخوف والمجهول؛ لا سند قانونياً له، ولا جهة تحميه. يقول شاب من دير بلوط: «نخاف من الغد أكثر مما نخاف من الموت؛ لأن الموت واضح، أما الغد فهو سلاح معلّق في الهواء».

في تلك العبارة تكثيف للزمن المعلق الذي يعيشونه؛ زمن ليس فيه حاضر ولا مستقبل، فقط انتظارٌ لا ينتهي. الحالة النفسية هناك مرآة لهذا العطب العام؛ لم تعد الصدمة نتيجة الحرب فحسب، بل نتيجة تكرار اللجوء ذاته. يعيش الفلسطيني في حالة من القلق والاكتئاب وفقدان المعنى؛ ستة من كل عشرة يعانون أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، ونصفهم تقريباً يفكر بالهجرة أو الانتحار في أوقات متكررة.

المعالجون النفسيون قلة، والدعم الاجتماعي هش، والعزلة هي اللغة المشتركة. ومع ذلك، ثمة مقاومة صامتة؛ نوع من المناعة الوجودية التي تنشأ من التكرار، فالبقاء نفسه يتحول إلى فعل مقاومة.

إن الفلسطيني في الشمال السوري لا يعيش داخل التاريخ، بل على هامشه. الزمن عنده لا يتقدّم، بل يدور في حلقةٍ من الرماد. صار الحاضر منفىً آخر، والمنفى ذاته وطناً قسرياً. الحياة اليومية لا تتجاوز حدود الغريزة: الحصول على الماء، تأمين الخبز، تدفئة الجسد في الليل.

ومع ذلك، في داخل هذا الركام ثمة ما يشبه الإصرار على الوجود؛ كأن الفلسطيني لا يقاوم ليعيش، بل يعيش ليقاوم الفناء. قالت عجوز في دير بلوط: «نحن لا نملك وطناً، لكننا نملك حكاية لم تمت بعد».

تلك الحكاية، مهما بدت خامدة، هي ما يبقي فلسطين حيّة. فلسطين في الشمال ليست جغرافيا تُرسم على الخرائط، بل ذاكرة تمشي على الطين، تحرس رمادها كأنها تحرس نارها الأولى.

الوسوم

رابط مختصر : http://www.actionpal.org.uk/ar/post/22521

 نضال الخليلمجموعة العمل

في الشمال السوري، لا يعيش الفلسطينيون ما يشبه الحياة بقدر ما يعيشون "استعارتها" المرة. أولئك الذين بقوا هناك في خيامٍ ممتدة على وجه الجغرافيا ككدمات بيضاء، صاروا "لاجئين من اللجوء ذاته"؛ لا يملكون شيئاً من الوطن سوى اسمه الذي يتردد في الذاكرة، ولا من الحياة سوى استمرارٍ بيولوجيٍّ هشٍّ يختبر معنى البقاء.

تُقدّر المنظمات الإنسانية وجود مئات العائلات الفلسطينية في مناطق إدلب وريفها، وفي تجمعات أعزاز وعفرين والباب، ومن بينهم نازحو اليرموك وخان الشيح ودرعا؛ إنهم بقايا موجةٍ بشريةٍ خرجت من رماد الحرب لتجد نفسها في رمادٍ آخر يضيق ولا ينتهي.

الخيمة هناك ليست مأوىً مؤقتاً، بل قدرٌ مُقيم؛ تغرقها الأمطار وتخنقها الحرارة، لكنها تبقى عنواناً إجبارياً للحياة. ستٌّ من كل عشر خيام غير صالحة للسكن، وعدد من يملكون جدراناً ثابتة لا يتجاوز عشرة بالمئة. من لم يطرده القصف طرده الإيجار، أو غياب العقد، أو ارتفاع الأسعار. الصرف الصحي بدائي، والماء ملوث، والدورات المشتركة تُستعمل لعشرات الأشخاص.

يقول أحد الشبان في كفركرمين: «نحن لا نملك عنواناً، لكن الضرائب تعرفنا جيداً».

تلك الجملة تختصر الهوة بين الإنسان والسلطة، بين الوجود الفعلي والاعتراف القانوني. المرض في هذه الجغرافيا ليس حالة جسدية، بل هو مصير؛ فالفلسطينيون هناك خارج مظلة "الأونروا" منذ سنوات، يعتمدون على الجمعيات الطبية السورية الصغيرة والمنظمات الدولية المحدودة.

النقص في الأدوية مزمن، والمراكز الصحية أشبه بخيام موسّعة؛ ثلاثون بالمئة من الأطفال يعانون من سوء تغذية، والنساء يلدن في ظروف بدائية، والأمراض المزمنة تعني حكماً بالموت البطيء. يقول أحد الأطباء الفلسطينيين: «نمارس الطب كفعل رحمة لا كعلم».

الجسد هنا مادة قابلة للنفاد، والدواء رفاهية أخلاقية أكثر منه علاجاً. في المدارس المؤقتة، يتعلّم الأطفال منهجاً لا يشبههم؛ فلم تعد فلسطين تَرِدُ إلا عرَضاً، ولا اليرموك اسماً في الدروس، بل ذكرى على لسان المعلمين الكبار. نصف الأطفال تقريباً لا يكملون تعليمهم الثانوي؛ لأن الطريق إلى المدرسة أطول من الصبر، ولأن الجوع والبرد أسرع من الدروس.

يقول أحد المعلمين في دير بلوط: «الطفل الفلسطيني لا يحلم بأن يصبح طبيباً، بل بأن يصل إلى المدرسة دون أن يغرق في الوحل».

إنهم جيلٌ بلا خرائط، وذاكرة بلا أسماء. الاقتصاد هناك دائرة مغلقة من الفقر؛ أكثر من تسعين بالمئة من الفلسطينيين تحت خط الفقر، ودخل الفرد لا يتجاوز خمسةً وثلاثين دولاراً في الشهر. الأعمال متقطعة وموسمية، تتوزع بين البناء والزراعة وبعض المنظمات. لا أراضيَ يمتلكونها ولا حقوق ملكية واضحة؛ التمييز الخفي موجود والدعم الخارجي انخفض. إنهم يعيشون على فتات المساعدات والتحويلات المتناقصة من الأقارب في الشتات. الاقتصاد ليس دورة إنتاج، بل دورة نجاة؛ من يعمل لا يعمل لينتج، بل ليبقى.

المستقبل متغير هش، بلا ضابط؛ تتوالى الأيام وتبقى الخيمة ثابتة. الفلسطيني هناك عالق بين الخوف والمجهول؛ لا سند قانونياً له، ولا جهة تحميه. يقول شاب من دير بلوط: «نخاف من الغد أكثر مما نخاف من الموت؛ لأن الموت واضح، أما الغد فهو سلاح معلّق في الهواء».

في تلك العبارة تكثيف للزمن المعلق الذي يعيشونه؛ زمن ليس فيه حاضر ولا مستقبل، فقط انتظارٌ لا ينتهي. الحالة النفسية هناك مرآة لهذا العطب العام؛ لم تعد الصدمة نتيجة الحرب فحسب، بل نتيجة تكرار اللجوء ذاته. يعيش الفلسطيني في حالة من القلق والاكتئاب وفقدان المعنى؛ ستة من كل عشرة يعانون أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، ونصفهم تقريباً يفكر بالهجرة أو الانتحار في أوقات متكررة.

المعالجون النفسيون قلة، والدعم الاجتماعي هش، والعزلة هي اللغة المشتركة. ومع ذلك، ثمة مقاومة صامتة؛ نوع من المناعة الوجودية التي تنشأ من التكرار، فالبقاء نفسه يتحول إلى فعل مقاومة.

إن الفلسطيني في الشمال السوري لا يعيش داخل التاريخ، بل على هامشه. الزمن عنده لا يتقدّم، بل يدور في حلقةٍ من الرماد. صار الحاضر منفىً آخر، والمنفى ذاته وطناً قسرياً. الحياة اليومية لا تتجاوز حدود الغريزة: الحصول على الماء، تأمين الخبز، تدفئة الجسد في الليل.

ومع ذلك، في داخل هذا الركام ثمة ما يشبه الإصرار على الوجود؛ كأن الفلسطيني لا يقاوم ليعيش، بل يعيش ليقاوم الفناء. قالت عجوز في دير بلوط: «نحن لا نملك وطناً، لكننا نملك حكاية لم تمت بعد».

تلك الحكاية، مهما بدت خامدة، هي ما يبقي فلسطين حيّة. فلسطين في الشمال ليست جغرافيا تُرسم على الخرائط، بل ذاكرة تمشي على الطين، تحرس رمادها كأنها تحرس نارها الأولى.

الوسوم

رابط مختصر : http://www.actionpal.org.uk/ar/post/22521