نضال الخليل – مجموعة العمل
الذاكرةُ ليست مجرّد رِوايةٍ تُروى أو بيانٍ يُصدر هي شبكةٌ تتداخلُ فيها الكلماتُ مع الأفعالِ والأسماءُ مع السِّيَرِ والجرحُ مع آلياتِ النسيان.
في الحالةِ الفلسطينية-السورية تصيرُ الذاكرةُ ميدانًا للمفاهيم - وطنٌ لم يتركنا ومنفىٌ لا يكفّ عن تشكيل صورٍ مفروضةٍ تاريخٌ يطوي نفسه بين خرائطٍ رسمت بلا ضمائر وسردٍ يُنتجُ ليُسوّقَ أو ليُسوَّق أمام هذا الواقع
أوّلُ ما يطالِبُنا به الفكرُ النقديّ هو تبيانُ طبقاتِ التشكيل - كيف تُنتَجُ «الحقائق»؟
ما هي الأجهزةُ السياسيةُ والإعلاميّةُ والثقافيةُ التي تعيدُ تشكيلَ ما نسميه حقيقةً؟
إن الخطأَ الأساسَ الذي يقع فيه الكثيرون هو افتراضُ أن الحقيقةَ موجودةٌ جامدةً بانتظارِ من يكتشفها بينما الحقيقةُ في هذه الحالة مُشتغَلةٌ، مُنتَجةٌ، مُخاطَبةٌ ومؤطرةٌ بأدواتٍ تُريدُ لها أن تصير قابلةً للاستهلاك
وهنا تكمنُ المهمةُ الأولى للمثقف فكُّ آلياتِ الإنتاجِ لا مجردِ استحضارِ محتوىً.
ثنائيةُ التوثيقِ والمعنى - التوثيقُ ليس عمليّةً تقنيّةً بحتةً هو عملٌ فلسفيٌّ أخلاقيّ أن تحفظَ تاريخًا يعني أن تُعيدَ توزيعَ الاعتراف أن تُعيدَ الاسمَ لذاته لا أن تخضعَه لرقمنةٍ تُسهِم في محو سياقه.
التوثيقُ الجيّدُ يحرّرُ الاسمَ من وظيفةٍ إيديولوجيةٍ أو من طابعٍ استعراضيٍّ يجعلُ من السردِ مرآةً لمشروعاتٍ لا تمتّ إلى الضحية بصلة التوثيقُ هو إنقاذٌ للإنسانِ من أن يُستبدَلَ برمزٍ ومن أن يتحوّلَ ألمُهُ إلى مادةٍ في سوقِ العروض.
هنا لا يكفي الشغفُ بالحقائقِ لا بدّ من منهجٍ يحرصُ على الصدقِ في المصادرِ على التمييزِ بين الشاهدِ والمُعلّقِ بين السردِ الشخصيِّ والسياسةِ العامة كما أن التوثيقَ يتطلّبُ حراسةً ضدّ الاستلابِ المفاهيميّ لا يجوزُ تحويلُ الشهادةِ إلى شعارٍ ولا إلى سلاحٍ دعائيٍّ ينهشُ منسوبَ المعنى.
للكتابةِ قدرةٌ مزدوجة إمّا أن تُسهِمَ في تبييضِ الواقعِ وتجميلِه أو أن تشتغلَ كأداةٍ لمساءلةِ الذاكرةِ وتحريرِها المثقفُ الذي يختارُ البريقَ الإعلاميّ و«الخطابَ المقبول» يخسرُ الوظيفةَ الأخلاقيةَ للكتابة أما الذي يثابرُ على الكتابةِ الدقيقةِ فهو لا يضعُ نفسهَ في مواجهةٍ مع القضيّةِ بقدر ما يقدّمُ لها أدواتِ البقاءِ المعرفيّة.
المنفىُ يُحوِّلُ المثقفَ إلى كائنٍ في حالةِ ترحيلٍ مزدوجة فقدانُ الأرضِ وفقدانُ شروطِ الإسهامِ في تشكيلِ السردِ الجمعيّ على نحوٍ فعّال لكن المنفى أيضًا يعلّمُ تقنيّاتٍ لم تُعرفْ في الداخل طرقَ الأرشفةِ الرقميّةِ شبكاتِ التضامنِ العابرةِ للحدودِ نشرَ الشهاداتِ بلغاتٍ متعدِّدةٍ إنّ مهمة المثقفِ هنا ليست شعورًا بالندبِ على الذاتِ بل تنظيمٌ عمليّ بناءُ مؤسّساتٍ صغيرةٍ توثيقٌ منهجيٌّ تعليمٌ مستدامٌ للكتابةِ والقراءةِ النقديّةِ في صفوفِ الجيلِ الجديد.
ثمّةُ سؤالٌ أخلاقيٌّ مركزيّ
في كثيرٍ من حالاتِ الصراع يسودُ إغراءٌ لتبسيطِ التاريخِ كي يصبحَ قابلًا للفهمِ والسوقِ لكن تبسيطَ التاريخِ يعني موتَ التفاصيلِ وطمسَ الأصواتِ الهشّة الحرصةُ الأخلاقيةُ تقتضيُ أن نُحافظَ على الاختلافِ باعتبارهَ ثروةً ذاكريةً وأن نعترفَ بأن الانتماءاتِ المتداخلةَ والذاكراتِ المتقاطعةَ هي التي تُعطي القضيةَ عمقَها الإنسانيّ.
إنّ الدعوةَ ليست إلى خطاباتٍ ضخمةٍ ولا إلى مظاهراتٍ بلاغيةٍ بل إلى فعلٍ صامتٍ ومتواصلٍ تسجيلُ اسمٍ قبل أن يندثرَ حفظُ وثيقةٍ قبل أن تُفقدَ لقاءٌ مع شاهدةٍ قبل أن يموتَ السردُ على لسانِها هذه الأعمالُ الصغيرةُ المتراكمةُ هي ما يُعيدُ للذاكرةِ ديناميكيتها ويمنحُ للمشروعِ الثقافيِّ الفلسطينيّ-السوريّ صلابةً تمنعهُ من السقوطِ في فخِّ أشباهِ الحقائق
في زمنٍ تُنتَجُ فيه الحقائقُ وتُستبدَلُ الذاكرةُ بالصورِ الجاهزة يتأكدُ أن الفكرَ الواعيَ لا يكتفي بوصفِ الجرحِ بل يعملُ كجراحٍ يزيلُ الأنسجةَ الملوَّثةَ ويُثبتُ النسيجَ الحيَّ هذه هي الوظيفةُ الواقعيّةُ للأدبِ والتأريخِ والنقدِ في زمنٍ تُختَبرُ فيهُ إنسانيّتنا ألا نجعلَ من الأسماءِ مجردَ أرقامٍ في قوائمٍ تُنسى بل نعيدُ إليها حضورَها كأشخاصٍ كانوا وسيبقون.
نضال الخليل – مجموعة العمل
الذاكرةُ ليست مجرّد رِوايةٍ تُروى أو بيانٍ يُصدر هي شبكةٌ تتداخلُ فيها الكلماتُ مع الأفعالِ والأسماءُ مع السِّيَرِ والجرحُ مع آلياتِ النسيان.
في الحالةِ الفلسطينية-السورية تصيرُ الذاكرةُ ميدانًا للمفاهيم - وطنٌ لم يتركنا ومنفىٌ لا يكفّ عن تشكيل صورٍ مفروضةٍ تاريخٌ يطوي نفسه بين خرائطٍ رسمت بلا ضمائر وسردٍ يُنتجُ ليُسوّقَ أو ليُسوَّق أمام هذا الواقع
أوّلُ ما يطالِبُنا به الفكرُ النقديّ هو تبيانُ طبقاتِ التشكيل - كيف تُنتَجُ «الحقائق»؟
ما هي الأجهزةُ السياسيةُ والإعلاميّةُ والثقافيةُ التي تعيدُ تشكيلَ ما نسميه حقيقةً؟
إن الخطأَ الأساسَ الذي يقع فيه الكثيرون هو افتراضُ أن الحقيقةَ موجودةٌ جامدةً بانتظارِ من يكتشفها بينما الحقيقةُ في هذه الحالة مُشتغَلةٌ، مُنتَجةٌ، مُخاطَبةٌ ومؤطرةٌ بأدواتٍ تُريدُ لها أن تصير قابلةً للاستهلاك
وهنا تكمنُ المهمةُ الأولى للمثقف فكُّ آلياتِ الإنتاجِ لا مجردِ استحضارِ محتوىً.
ثنائيةُ التوثيقِ والمعنى - التوثيقُ ليس عمليّةً تقنيّةً بحتةً هو عملٌ فلسفيٌّ أخلاقيّ أن تحفظَ تاريخًا يعني أن تُعيدَ توزيعَ الاعتراف أن تُعيدَ الاسمَ لذاته لا أن تخضعَه لرقمنةٍ تُسهِم في محو سياقه.
التوثيقُ الجيّدُ يحرّرُ الاسمَ من وظيفةٍ إيديولوجيةٍ أو من طابعٍ استعراضيٍّ يجعلُ من السردِ مرآةً لمشروعاتٍ لا تمتّ إلى الضحية بصلة التوثيقُ هو إنقاذٌ للإنسانِ من أن يُستبدَلَ برمزٍ ومن أن يتحوّلَ ألمُهُ إلى مادةٍ في سوقِ العروض.
هنا لا يكفي الشغفُ بالحقائقِ لا بدّ من منهجٍ يحرصُ على الصدقِ في المصادرِ على التمييزِ بين الشاهدِ والمُعلّقِ بين السردِ الشخصيِّ والسياسةِ العامة كما أن التوثيقَ يتطلّبُ حراسةً ضدّ الاستلابِ المفاهيميّ لا يجوزُ تحويلُ الشهادةِ إلى شعارٍ ولا إلى سلاحٍ دعائيٍّ ينهشُ منسوبَ المعنى.
للكتابةِ قدرةٌ مزدوجة إمّا أن تُسهِمَ في تبييضِ الواقعِ وتجميلِه أو أن تشتغلَ كأداةٍ لمساءلةِ الذاكرةِ وتحريرِها المثقفُ الذي يختارُ البريقَ الإعلاميّ و«الخطابَ المقبول» يخسرُ الوظيفةَ الأخلاقيةَ للكتابة أما الذي يثابرُ على الكتابةِ الدقيقةِ فهو لا يضعُ نفسهَ في مواجهةٍ مع القضيّةِ بقدر ما يقدّمُ لها أدواتِ البقاءِ المعرفيّة.
المنفىُ يُحوِّلُ المثقفَ إلى كائنٍ في حالةِ ترحيلٍ مزدوجة فقدانُ الأرضِ وفقدانُ شروطِ الإسهامِ في تشكيلِ السردِ الجمعيّ على نحوٍ فعّال لكن المنفى أيضًا يعلّمُ تقنيّاتٍ لم تُعرفْ في الداخل طرقَ الأرشفةِ الرقميّةِ شبكاتِ التضامنِ العابرةِ للحدودِ نشرَ الشهاداتِ بلغاتٍ متعدِّدةٍ إنّ مهمة المثقفِ هنا ليست شعورًا بالندبِ على الذاتِ بل تنظيمٌ عمليّ بناءُ مؤسّساتٍ صغيرةٍ توثيقٌ منهجيٌّ تعليمٌ مستدامٌ للكتابةِ والقراءةِ النقديّةِ في صفوفِ الجيلِ الجديد.
ثمّةُ سؤالٌ أخلاقيٌّ مركزيّ
في كثيرٍ من حالاتِ الصراع يسودُ إغراءٌ لتبسيطِ التاريخِ كي يصبحَ قابلًا للفهمِ والسوقِ لكن تبسيطَ التاريخِ يعني موتَ التفاصيلِ وطمسَ الأصواتِ الهشّة الحرصةُ الأخلاقيةُ تقتضيُ أن نُحافظَ على الاختلافِ باعتبارهَ ثروةً ذاكريةً وأن نعترفَ بأن الانتماءاتِ المتداخلةَ والذاكراتِ المتقاطعةَ هي التي تُعطي القضيةَ عمقَها الإنسانيّ.
إنّ الدعوةَ ليست إلى خطاباتٍ ضخمةٍ ولا إلى مظاهراتٍ بلاغيةٍ بل إلى فعلٍ صامتٍ ومتواصلٍ تسجيلُ اسمٍ قبل أن يندثرَ حفظُ وثيقةٍ قبل أن تُفقدَ لقاءٌ مع شاهدةٍ قبل أن يموتَ السردُ على لسانِها هذه الأعمالُ الصغيرةُ المتراكمةُ هي ما يُعيدُ للذاكرةِ ديناميكيتها ويمنحُ للمشروعِ الثقافيِّ الفلسطينيّ-السوريّ صلابةً تمنعهُ من السقوطِ في فخِّ أشباهِ الحقائق
في زمنٍ تُنتَجُ فيه الحقائقُ وتُستبدَلُ الذاكرةُ بالصورِ الجاهزة يتأكدُ أن الفكرَ الواعيَ لا يكتفي بوصفِ الجرحِ بل يعملُ كجراحٍ يزيلُ الأنسجةَ الملوَّثةَ ويُثبتُ النسيجَ الحيَّ هذه هي الوظيفةُ الواقعيّةُ للأدبِ والتأريخِ والنقدِ في زمنٍ تُختَبرُ فيهُ إنسانيّتنا ألا نجعلَ من الأسماءِ مجردَ أرقامٍ في قوائمٍ تُنسى بل نعيدُ إليها حضورَها كأشخاصٍ كانوا وسيبقون.