نضال الخليل – مجموعة العمل
لم يكن يوم التحرير — يوم سقوط النظام البائد — يومًا في التقويم بقدر ما كان صدعًا في ذاكرة الفلسطيني السوري؛ ذاكرةٍ تُعامل الأيام كما يُعامل الحطاب خشبَ الغابة: يختار منها ما يصلح نارًا، وما يصلح سقفًا، وما يصلح قبرًا لليل المتصلب في القلب.
لم يحتفل المخيم لأن الفرح عادة تحتاج إلى طبلة غير مشروخة، بل لأن الفرح كان الامتحان الأخير في كراسةٍ محتها السنون. وقف المخيم عند عتبته يتأمل الخراب الذي جاوره طويلًا، ويحرص ألا يفلت من قبضته شيء من الأسئلة التي تربت في صدره مثل يتامى لا اسم لهم.
لقد شارك الفلسطيني السوري في الثورة بلا استئذان؛ لا لأن دوره استدعته الملصقات، بل لأن جغرافيا المخيم لم تكن تعرف الحياد يومًا. سقط الشهداء في الأزقة نفسها التي تمر بها الذاكرة، وتحوّلت الخبرات العسكرية — تلك التي حملها الشبان من خدمتهم الإلزامية أو من ترسبات التجربة الفدائية — إلى جزء من نسيج أكبر؛ نسيج تُخاط فيه الحرية بخيطٍ واهٍ من الدم لا ينقطع.
تهجّر المخيم، لا لأن الريح قاسية، لكن لأن الخرائط كانت تتبدل كما تتبدل محطات الحافلات في مدينة لا تستقر، وانمحت أسماؤه من وجه الجغرافيا لتعبر إلى وجه التاريخ كأنها تحج إليه. غير أن الدور الجديد لم يولد من مقاس المشاركة وحدها، لكن من الحفر في معنى البقاء ذاته.
فالفلسطيني السوري اليوم لا يقف أمام مرآة سياسية تبحث عن صورة تمثيل، بل أمام مرآة اجتماعية تُطالبه أن يفعل ما فعله دومًا: أن يُحصن ماكينة الحياة، وأن يرمم أعصاب الجماعة، وأن يضمن لأطفاله مكانًا لا يُسحب فيه السقف عن رؤوسهم كل عقدٍ من الزمان. هو يبحث عن دوره في المجتمع السوري وهو يعاد بناؤه حجراً حجراً؛ دورٌ يليق بتجربته في المشي على خطوط النار، وفي حمل الذاكرة الثقيلة التي لا تتسول الاعتراف بل تفرضه.
هنا، في هذا الحيز الدقيق من الزمن المنكسر، يبرز المغيّبون قسرًا. ليسوا وجوهًا على جدار، إنهم الهواء الذي لا يُرى لكنه يرفع السقف عن البيت. وجودهم الغائب هو الوثيقة التي لا يكتبها أحد، لكنها تحرس الوعي من الهشاشة.
يرفض المخيم أن يمر يوم التحرير بلا ذكرهم، بلا محاولة عنيدة لإعادة أسمائهم إلى السجلات التي حذفها النظام البائد كما يُحذف سطر زائد من دفتر الحساب. فالفلسطيني السوري يعرف أكثر من غيره أن الحق الذي لا يُوثق يصبح ريشة في مهب الخطابات. لذلك اندفع — بحكم التجربة لا بحكم الشعارات — إلى بناء مسارات توثيقية: شهادات، أرشيفات، أسماء، تواريخ اعتقال، مخطوطات صغيرة كتبها الهاربون، وصور تسربت من قبضة المجهول.
هو لا يطالب باسم المغيب فقط، لكن بحقه في الظهور، وبحق غيابه في أن يتحول من مأساة فردية إلى قاعدة قانونية لا تنكسر بسهولة. الفلسطيني السوري لا يريد أن يُختزل في البكاء على الخراب، يريد أن يشارك في إعادة بناء المجتمع كما يعاد بناء الذاكرة — طبقة فوق طبقة — وأن يجعل من المخيم مختبرًا للعدالة.
فالدور المجتمعي الذي يتطلع إليه ليس دور المستعير لأرض أو لراتب، لكن دور الحارس لمعنى الحياة المشتركة. دورُ من يعرف أن الحقوق ليست مفردات في دستور يُكتب على عجل، بل سلالة طويلة تبدأ من أول شهيد، وتمر بأول مغيب، وتنتهي بآخر نافذة تُفتح على بيت أعيد بناؤه بعد عقد من الظلمة.
لهذا يصبح يوم التحرير في تجربته أكثر من حدث؛ يصبح دفترًا مفتوحًا يضع فيه المخيم أسئلة وجوده:
إنه نص يكتب نفسه من جديد في كل مخيم، كأن الفلسطيني السوري يقول:
"أنا هنا… لا لأبحث عن سلطة، لكن لأحمي ما تبقى من المعنى. أنا هنا… لأحفظ الأسماء من الضياع، ولأجعل الغياب وثيقة، ولأعيد للحقوق شكلها حين تتكسر. أنا هنا… لأعيد بناء المجتمع حتى لو كان الركام أعلى من كتفي".
نضال الخليل – مجموعة العمل
لم يكن يوم التحرير — يوم سقوط النظام البائد — يومًا في التقويم بقدر ما كان صدعًا في ذاكرة الفلسطيني السوري؛ ذاكرةٍ تُعامل الأيام كما يُعامل الحطاب خشبَ الغابة: يختار منها ما يصلح نارًا، وما يصلح سقفًا، وما يصلح قبرًا لليل المتصلب في القلب.
لم يحتفل المخيم لأن الفرح عادة تحتاج إلى طبلة غير مشروخة، بل لأن الفرح كان الامتحان الأخير في كراسةٍ محتها السنون. وقف المخيم عند عتبته يتأمل الخراب الذي جاوره طويلًا، ويحرص ألا يفلت من قبضته شيء من الأسئلة التي تربت في صدره مثل يتامى لا اسم لهم.
لقد شارك الفلسطيني السوري في الثورة بلا استئذان؛ لا لأن دوره استدعته الملصقات، بل لأن جغرافيا المخيم لم تكن تعرف الحياد يومًا. سقط الشهداء في الأزقة نفسها التي تمر بها الذاكرة، وتحوّلت الخبرات العسكرية — تلك التي حملها الشبان من خدمتهم الإلزامية أو من ترسبات التجربة الفدائية — إلى جزء من نسيج أكبر؛ نسيج تُخاط فيه الحرية بخيطٍ واهٍ من الدم لا ينقطع.
تهجّر المخيم، لا لأن الريح قاسية، لكن لأن الخرائط كانت تتبدل كما تتبدل محطات الحافلات في مدينة لا تستقر، وانمحت أسماؤه من وجه الجغرافيا لتعبر إلى وجه التاريخ كأنها تحج إليه. غير أن الدور الجديد لم يولد من مقاس المشاركة وحدها، لكن من الحفر في معنى البقاء ذاته.
فالفلسطيني السوري اليوم لا يقف أمام مرآة سياسية تبحث عن صورة تمثيل، بل أمام مرآة اجتماعية تُطالبه أن يفعل ما فعله دومًا: أن يُحصن ماكينة الحياة، وأن يرمم أعصاب الجماعة، وأن يضمن لأطفاله مكانًا لا يُسحب فيه السقف عن رؤوسهم كل عقدٍ من الزمان. هو يبحث عن دوره في المجتمع السوري وهو يعاد بناؤه حجراً حجراً؛ دورٌ يليق بتجربته في المشي على خطوط النار، وفي حمل الذاكرة الثقيلة التي لا تتسول الاعتراف بل تفرضه.
هنا، في هذا الحيز الدقيق من الزمن المنكسر، يبرز المغيّبون قسرًا. ليسوا وجوهًا على جدار، إنهم الهواء الذي لا يُرى لكنه يرفع السقف عن البيت. وجودهم الغائب هو الوثيقة التي لا يكتبها أحد، لكنها تحرس الوعي من الهشاشة.
يرفض المخيم أن يمر يوم التحرير بلا ذكرهم، بلا محاولة عنيدة لإعادة أسمائهم إلى السجلات التي حذفها النظام البائد كما يُحذف سطر زائد من دفتر الحساب. فالفلسطيني السوري يعرف أكثر من غيره أن الحق الذي لا يُوثق يصبح ريشة في مهب الخطابات. لذلك اندفع — بحكم التجربة لا بحكم الشعارات — إلى بناء مسارات توثيقية: شهادات، أرشيفات، أسماء، تواريخ اعتقال، مخطوطات صغيرة كتبها الهاربون، وصور تسربت من قبضة المجهول.
هو لا يطالب باسم المغيب فقط، لكن بحقه في الظهور، وبحق غيابه في أن يتحول من مأساة فردية إلى قاعدة قانونية لا تنكسر بسهولة. الفلسطيني السوري لا يريد أن يُختزل في البكاء على الخراب، يريد أن يشارك في إعادة بناء المجتمع كما يعاد بناء الذاكرة — طبقة فوق طبقة — وأن يجعل من المخيم مختبرًا للعدالة.
فالدور المجتمعي الذي يتطلع إليه ليس دور المستعير لأرض أو لراتب، لكن دور الحارس لمعنى الحياة المشتركة. دورُ من يعرف أن الحقوق ليست مفردات في دستور يُكتب على عجل، بل سلالة طويلة تبدأ من أول شهيد، وتمر بأول مغيب، وتنتهي بآخر نافذة تُفتح على بيت أعيد بناؤه بعد عقد من الظلمة.
لهذا يصبح يوم التحرير في تجربته أكثر من حدث؛ يصبح دفترًا مفتوحًا يضع فيه المخيم أسئلة وجوده:
إنه نص يكتب نفسه من جديد في كل مخيم، كأن الفلسطيني السوري يقول:
"أنا هنا… لا لأبحث عن سلطة، لكن لأحمي ما تبقى من المعنى. أنا هنا… لأحفظ الأسماء من الضياع، ولأجعل الغياب وثيقة، ولأعيد للحقوق شكلها حين تتكسر. أنا هنا… لأعيد بناء المجتمع حتى لو كان الركام أعلى من كتفي".